تيس (الصفري)

TT

كنا مجموعة من الرجال متحلقين حول طاولة في أحد المقاهي، ويجلس على طاولة مجاورة لنا رجل مع زوجته، وكان مقعدي هو الأقرب لهما، لهذا استمعت إلى ما دار بينهما جيدا - دون أن أتعمد استراق السمع - لأن أصواتهما وصلت إلى أذني ولله الحمد دون جهد أو تأنيب ضمير.

كانت بداية المناقشات بينهما هادئة، غير أن أصواتهما بدأت تتعالى ووصلت إلى مرحلة الحسم، عندما وقفت الزوجة وهي تزم شفتيها بتشنّج قائلة لزوجها: إنك لا تفهم ولن تفهم يا (طرطور). ثم أزاحت كرسيها بعنف وخرجت وهي تدب بقدميها وكأنها جندي من جنود (الكوماندوز).

طبعا لا أستطيع أن أحكي لكم الموضوعات الحميمة والشائكة التي دارت بينهما لأن (المجالس أمانات) مثلما يقولون، وأنا مؤتمن على ما سمعت - رغم أن الشوق ينازعني لإفشاء ذلك السر، وقد أفعل ذلك يوما عندما ينتصر عليّ ضعفي وينهار ضميري - الذي هو الآن (على جريف).

التفتّ نصف التفاتة ونظرت بطرف عيني إلى الزوج الذي وجدت وجهه (يشرشر) بالعرق من شدة الخجل، وبما أنه متيقن من أنني سمعت كل ما دار بينهما، لهذا وجدته يبادلني النظرات ثم يرفع ويهز أكتافه علامة الاستهجان، وكأنه يقول لي: ماذا أعمل؟! هذه إرادة الله وهذه هي حكمته!

رفع المسكين يده في الهواء مؤشرا (للغرسون) بطلب الحساب، وبعدما دفع خرج يجر ويسحب قدميه، وهو في هذا الحال ذكرني بما يسمّى بـ(تيس الصفري).

ولمن لا يعرف هذا التيس، فهو يطلق على كل فحل يرافق الماعز في مراعيها، وتجد التيس من هؤلاء عندما يكون في فصل الربيع يكون في أحسن حالاته وفي قمة نشاطه في معاشرة إناث الماعز، وتسمع صياحه و(بعبعته) التي لا تتوقف طوال النهار وهو على رأس القطيع، ولكن ما إن يحل فصل الخريف - وهو ما يطلق عليه في نجد مسمّى (الصفري) - حتى تجد ذلك التيس قد انشفط وانهدّ حيله، وعندما تعود قطعان الماعز عند الغروب ذاهبة إلى حظائرها، تجد الحال قد انقلب حيث إن إناث الماعز الشابات يكنّ في قمة لياقتهن وحيويتهن يتراكضن في المقدمة، في حين أن (أخينا بالله)، ذلك التيس الفحل، تراه وقد أصبح هزيلا يسحب أقدامه سحبا خلفهن بمسافة بعيدة، ولو أنك نفخت عليه نفخة لسقط، فقد استهلك نفسه بالنشاط الزائد عن الحد. وحال ذلك الزوج التعيس عندما شاهدته يخطو متعثرا للخارج ذكّرني رأسا بـ(تيس الصفري)، على كل حال ما أكثر الرجال في هذا العالم الذين يشبهون ذلك التيس (الخالق الناطق)، ولكن أغلبهم لا يعترفون.

عندها بدأت تعليقات الأصحاب على ذلك الموقف الذي شاهدوه، وكنت الوحيد تقريبا الذي لم يشارك في تلك المناقشات والتعليقات، فقد آثرت السكوت حفاظا على ماء وجهي.

فقال أحدهم: إنني أكره المرأة المتجهمة، ثم قال بثقة ومبالغة فجّة: إنني أحب زوجتي لأنها مرحة.

وهنا لا بد أن أوضح وأقول: إنني أعرف زوجته (المنفلتة العيار) - إن جاز التعبير - وهي منفلتة ليس أخلاقيا لا سمح الله، ولكن (فشّتها عايمة)، بمعنى أنها لجوجة وضحوكة ومزعجة ومحرجة للآخرين بتعليقاتها وثرثرتها (ونكاتها) التي لا تنتهي، وإذا رأيتها في أي مجلس أحاول أن أتحاشاها بقدر ما أستطيع. وقال الآخر تعجبني المرأة العاملة الكريمة التي تعتمد على نفسها، وهذا على فكرة متزوج بـ(مديرة مدرسة)، وراتبها أكثر من راتبه بثلاثة أضعاف، وهو باختصار يعيش بكنفها وعلى أكتافها المكتنزة.

لم أصبر حتى النهاية لأسمع بقية (الدرر) من كلام الآخرين، ووقفت مستأذنا وخرجت دون أن أشارك في دفع الحساب، وهذا هو المكسب الوحيد الذي خرجت به من تلك الجلسة.

[email protected]