اغتيال المبحوح.. قصة السلاح مستبعدة والمؤكد أنها عملية ثأرية!

TT

غير مقنع على الإطلاق أن اغتيال القائد في حماس محمود المبحوح في العشرين من شهر يناير (كانون الثاني) الماضي دافعه منع تدفق الأسلحة من إيران إلى غزة عبر محطة «دبي»، فطريق التزويد «العسكري» إلى فلسطين، وبخاصة من جمهورية إيران الإسلامية، ليس هذه الطريق، والمعروف أن وصول الأسلحة من هذا المصدر بالذات، الذي يبدو أنه لا مصدر غيره، يتم في العادة عبر البحر الأحمر في اتجاه سيناء ومن ثم إلى وجهته المقصودة، وكذلك الأمر بالنسبة لطريق البحر الأبيض المتوسط التي تنتهي بالأنفاق التي تربط «القطاع» بالعريش المصرية عند منطقة «رفح».

إن الحصول على السلاح بالنسبة لحركة حماس وبالنسبة لحزب الله ليس بحاجة إلى صفقات تجارية تتم في محطة دبي أو في أي محطة غيرها والمؤكد، وهذا أمر لا يحتاج إلى أي نقاش، أن إيران تزود هذين التنظيمين وتنظيمات أخرى من بينها «حوثيو» اليمن مجانا، وهذا يستدعي البحث عن سبب آخر غير هذا السبب الذي تناوله كثيرون وتناولته معظم وسائل الإعلام بدون التدقيق في واقع الأمور.

وهنا ولتحاشي أي التباس فإنه لا بد من التأكيد على أن المبحوح شهيد واجب، وأنه دفع حياته ثمنا لقضية عادلة هي قضية فلسطين، وأن وحدة «كيدون» التابعة لـ«الموساد» الإسرائيلية والمتخصصة في عمليات الاغتيالات منذ إنشاء إسرائيل وربما قبل ذلك هي التي ارتكبت هذه الجريمة النكراء وبقرار من بنيامين نتنياهو شخصيا، لأنه هو وحده المسؤول هكذا عن قرارات إجرامية وفقا للقوانين الإسرائيلية النافذة.

لا جدال إطلاقا في أن الإسرائيليين هم الذين ارتكبوا هذه الجريمة ولعل ما يجب قوله في هذا المجال أن التلاوم بعد أن حصل ما حصل غير مفيد على الإطلاق وأن تبادل الاتهامات بين حركة حماس والسلطة الوطنية حول الهوية التنظيمية لمن شارك الموساد الإسرائيلي في هذه العملية لم يستفد منه إلا المجرمون الذين قاموا بهذا العمل المستنكر ولم «يتنفَّع» منه إلا بعض مرتزقة الأقلام الذين وجدوها فرصة لتأجير أقلامهم إن في هذا الاتجاه أو في ذاك.

غير مستغرب أن يكون هناك «متعاملون» عملوا كجواسيس إلى جانب وحدة «كيدون» لتنفيذ هذه الجريمة، فالشعب الفلسطيني مستباح ومكشوف للاستخبارات الإسرائيلية كل هذه الأعوام الطويلة منذ عام 1967 وحتى الآن، والظروف الصعبة أمنيا واقتصاديا جعلت أنه من الطبيعي أن يسقط من أبناء هذا الشعب الذي يعيش تحت وطأة أبشع احتلال عرفه التاريخ وفي العالم بأسره بعض ضعفاء النفوس ويعملوا ضد شعبهم وضد قضيتهم، وهذا حصل مثله بالنسبة للشعوب التي مرت بأوضاع كأوضاع الفلسطينيين الذين قدموا من الشهداء ومن التضحيات ما يجب أن يكون مجال فخر للعرب ومجال اعتزاز ومباهاة للمسيرة الإنسانية.

ولذلك فإن هناك اختراقات في حركة حماس من دون أدنى نقاش، وإن حركة فتح التي سبقت شقيقتها هذه إلى الثورة وحمل السلاح بنحو ربع قرن قد عانت ولا تزال تعاني من مثل هذه الاختراقات.. والمؤكد أن حال التنظيمات الأخرى من الجبهة الشعبية إلى الجبهة الديمقراطية إلى باقي ما تبقى من كل هذه الفصائل ليس أحسن من حال هاتين الحركتين الكبيرتين، والفرق أنه كلما كان التواجد فعليا وحقيقيا وأكبر في داخل فلسطين، كان الاختراق أسهل بالنسبة للأجهزة الأمنية الإسرائيلية.

إذن وبعد التوقف عند كل هذه الحقائق وبعد استبعاد مسألة أن سبب استهداف محمود المبحوح هو استخدامه لـ«دبي» كمحطة لصفقات أسلحة من إيران إلى غزة، فإنه لا بد من استعراض كل الجرائم التي قام بها «الموساد» الإسرائيلي وتحديد دوافع وأسباب كل جريمة من هذه الجرائم التي كانت وصلت ذروتها في عقد سبعينات القرن الماضي، والتي طالت عددا كبيرا من خيرة القادة الفلسطينيين ومن التنظيمات كلها.

بدأت وحدة «كيدون» عملياتها الإجرامية مبكرا لزرع الرعب والخوف في أفئدة الفلسطينيين والعرب أيضا ولإظهار أن ذراع إسرائيل حتى عندما كانت حديثة الإنشاء طائلة وقادرة على الوصول إلى حيث تريد وهذه كانت إحدى ما يسمى نظريات ديفيد بنغوريون الدفاعية التي من بينها الأشرطة الأرضية العازلة والقبضة الحديدية.

لقد كانت لكل جريمة من الجرائم التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد العرب وغير العرب أيضا أسبابها ودوافعها فمثلا لجأ «الموساد» إلى اغتيال الفنان والمثقف الفلسطيني الكبير وائل زعيتر في العاصمة الإيطالية في السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1972 وكان يومها ممثلا لمنظمة التحرير في روما لأنه تمكن متسلحا بثقافته الواسعة من أن ينسج عرى صداقة وطيدة مع البيرتو مورفيا ومع كل القوى التي تشكل الضمير الإنساني للشعب الإيطالي.

كان وائل زعيتر وجها غير الوجه الذي رسمته الدعاية الإسرائيلية المتعاونة مع إعلام غربي وأميركي ببغاوي كان جاهزا لتبني كل ما يصل إليه من إسرائيل، وهذا في الحقيقة ينطبق وبالمقدار ذاته على الروائي الرائع والمبدع غسان كنفاني، وعلى محمود الهمشري الذي اغتيل في باريس في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 1975، وعلى سعيد حمامي وعز الدين القلق، وكثيرين من زملائهم الذين رسموا في تلك الفترة المبكرة صورة وردية وجميلة للثورة الفلسطينية المستهدفة الناشئة في الأوساط المثقفة الغربية.

وكان الدافع وراء جريمة اغتيال الشهداء الثلاثة في بيروت في العاشر من أبريل (نيسان) عام 1973، كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار هو تحريك رمال لبنان تحت أقدام منظمة التحرير والدفع في اتجاه حرب أهلية لبنانية كانت في حقيقة الأمر تقف على الأبواب، حيث بدأت بحادثة عين الرمانة الشهيرة بعد نحو عام من هذه الجريمة واستمرت حتى مؤتمر الطائف الشهير في نهايات عقد ثمانينات القرن الماضي.

وهكذا فقد استهدف «الموساد» الإسرائيلي علي حسن سلامة في أحد شوارع بيروت الغربية واغتاله بسيارة مفخخة في الثاني والعشرين من يناير عام 1979 لقطع كل قنوات الاتصال التي كان فتحها مع الـ«سي.آي.إيه» الأميركية والمعروف أن الإسرائيليين كانوا وما زالوا يعتبرون أن أكثر ما يشكل خطرا عليهم هو أن تتعزز علاقات الفلسطينيين مع الأجهزة الأمنية الأميركية.

أما دافع اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) في عام 1988 فهو ضرب معنويات الفلسطينيين وإخماد نيران الانتفاضة الأولى، انتفاضة عام 1987، لأنه كان قائدها الفعلي حتى بالنسبة لدقائق الأمور والأحداث، وذلك في حين أن اغتيال صلاح خلف (أبو إياد) بعد نحو ثلاثة أعوام كان دافعه التخلص من الخط المعتدل في منظمة التحرير الذي بات يواجَه بقبول متصاعد حتى من قبل الولايات المتحدة الأميركية.

ثم إن المعروف أن «الموساد» ومن قبيل ردع الفلسطينيين وإخافتهم قد بقي يطارد كل أفراد «أيلول الأسود» التابع لحركة فتح الذين شاركوا في الهجوم على الفريق الرياضي الإسرائيلي الذي شارك في مونديال ميونيخ عام 1972 في تلك الحادثة الشهيرة إلى أن قضوا عليهم كلهم، وهذا يرجح الرؤية القائلة إن جريمة اغتيال محمود المبحوح في دبي في العشرين من الشهر الماضي كانت عملية ثأرية وردا على قتل جنديين إسرائيليين في غزة في عام 1989 بعد أسرهما، والدليل أن المشارك في عملية القتل هذه واسمه عز الدين الشيخ خليل قد جرى اغتياله في دمشق عام 2004 في عملية لم يكشف النقاب عنها وجرى التستر عليها لأسباب تتعلق بطبيعة عمل حركة المقاومة الإسلامية.