الإرادة السياسية والتنمية الإدارية

TT

تحاول مؤسسات الدولة الرسمية في معظم دول العالم الثالث تطبيق أنظمة ومعايير إدارية، شبيهة بتلك المعايير المطبقة في الدول المتقدمة (العالم الأول). والمتفحص لهذه المؤسسات، يجد أنها لا تعمل كما هو مخطط لها. إن هذه المؤسسات تقوم بوظائف اجتماعية وسياسية غير معلنة في أهدافها الرسمية، وقد نجد لهذا تفسيرا إذا لاحظنا أن الأنظمة الإدارية الجديدة حلت محل أنظمة وأعراف وممارسات إدارية سائدة، وقد تعمل معا رغم تناقضها، وهذا ما يسمى بظاهرة «عدم التجانس»، وهو أول الملامح المميزة للبيئة الإدارية في دول العالم الثالث.

ووفقا للنموذج البيروقراطي المثالي، فإن المكتب الإداري (أو الإدارة الحكومية) ليست له إلا وظيفة واحدة، هي تطبيق الأنظمة، ويتم التنظيم والتوظيف، وعلاج مشكلات العمل والدوام، والترقيات وقياس الأداء، وفق معايير ومقاييس إدارية بحتة ومحايدة، ولكن هذه الظروف غير متوافرة في بيئة العالم الثالث، حيث نجد عدة اعتبارات، تتدخل في التعيين والتوظيف والترقية، ومنها الأهواء والاعتبارات الشخصية، وعدم الفصل بين الولاء للأشخاص والكفاءة في العمل الإداري، ولا يتوقف الأمر عند حد الاختلاط بينهما، حيث نجد أن هذه الاعتبارات، قد تكون أهم من الاعتبارات الإدارية، بل وأهم من الولاء للوطن!. وهذا الحال يؤدي أيضا إلى ملمح آخر من ملامح الإدارة في دول العالم الثالث وهو «التداخل»، حيث تتداخل المعايير، والممارسات والاتجاهات الإدارية الحديثة، مع الاعتبارات السياسية والاجتماعية والفكرية، السائدة في مجتمعات هذه الدول، فالأجهزة والمؤسسات والإدارات توحي ظاهرا بالاستقلال، بينما هي في الحقيقة متأثرة بالبيئة السياسية والاجتماعية، بل وبالصراعات الفكرية ومنها، الحزبية المؤدلجة (القبلية الجديدة) في تلك الدول.

وهذا التداخل يجعل الهياكل الإدارية غير متخصصة، وتؤدي أكثر من وظيفة، لأنها تتدخل في عمل الهياكل الإدارية الأخرى، كما يجعل الأخرى تتدخل في عملها، وإذا حاولت بعض القيادات الإدارية رفع أداء مؤسساتها، وفق معايير إدارية حديثة، مثل إعادة التنظيم والنظر في الإجراءات، واقتراح سن أنظمة جديدة، وتوزيع الاختصاصات وتفويض السلطات، فإنها تجد نفسها أمام كم هائل من المعوقات، لأن المشكلة لا تكمن في المعايير الإدارية، ولكنها تكمن في التأثر بتداخل الاعتبارات الإدارية مع تلك الاعتبارات المذكورة.

ومما يعزز هذه المعوقات، ويرسخها لدى العاملين في تلك المؤسسات، وفي المجتمع أيضا، تأثيرها السلبي على بعض تلك القيادات الإدارية، خاصة عندما تقحم هذه القيادات نفسها ومؤسساتها، في ذلك الاصطفاف الاجتماعي أو السياسي، وتكون طرفا في تلك الجولات والصولات الفكرية، التي تدور رحاها بين بعض أطياف المجتمع، مما يصعب مهمة هذه القيادات وحياديتها، في البحث عن الحلول المناسبة للمعوقات الإدارية التي تواجهها مؤسساتها. لذا نجد أن تلك القيادات تكتفي بمعالجة الجوانب التنظيمية الرسمية فقط، حتى وإن كانت لن تغير من الممارسات السلوكية للواقع. فتخرج هذه الجوانب التنظيمية الرسمية «شكلية». وهذا هو الملمح الثالث من الملامح الرئيسة في البيئة الإدارية في دول العالم الثالث، والمقصود بالشكلية هو أن الأنظمة والقواعد واللوائح الإدارية الرسمية، تكون شكلية، لأنها تنص على أشياء قد لا تمارس في الواقع العملي، في ظل وجود الملامح السابقة (عدم التجانس ووجود التداخل).

فإذا كانت التنمية الإدارية في الدول المتقدمة تتم وفقا لمعايير إدارية نموذجية (تطابق المعايير مع الممارسات)، فإن الوضع مختلف في دول العالم الثالث، حيث الفرق شاسع، بين النموذج الإداري الشكلي (هيكليا ووظيفيا)، والواقع الإداري، الذي يتسم بعدم التجانس والشكلية والتداخل. تنتج عنه صراعات معيقة، تسهم في إبطاء عملية الإصلاح والتنمية، لعدم مقدرة بعض القيادات الإدارية على القيام بدورها المسؤول، المناط بها لتنفيذ سياسات الدولة، التي تقتضي الحيادية في السياسة الإدارية داخل مؤسساتها، وتلمس احتياجات فئات المجتمع، وليس احتياج فئة على حساب الأخرى، فتكتفي بوضع خطة لتطوير الهياكل والوظائف الإدارية، مع العلم بأنها على الورق فقط، لا تستطيع فعل أكثر من ذلك. من هنا تبرز أهمية تدخل القيادات السياسية في هذه الدول وبإرادتها السياسية القوية المحايدة، للتقليل قدر الإمكان من هذه المعوقات، لدفع عملية التنمية الإدارية قدما، فلا تكون تلك المعوقات عقبة في مسيرة التنمية بمفهومها الشامل، فالتنمية الإدارية هي العمود الفقري للمسيرة التنموية في دول العالم كله، الأول منه والثالث.