بكركي.. أم حلب؟

TT

حلب مدينة عريقة يملأها عبق التاريخ وكانت رمانة الميزان لطريق «الحرير»، الخط التجاري الأشهر الذي كان يربط ما بين القارة الأوروبية وأسواق الغرب وبين قلب آسيا وأسواق الشرق، وكانت حلب دائما قلب تلاقي الحضارات، فعلى أرضها تعايش المسلمون والمسيحيون واليهود، سلام وسماحة وعدل وسوية، وكذلك عاش العرب والأكراد والأتراك واليونان والأرمن والإيطاليون والفرنسيون بمودة ومحبة. دور العبادة بجانب دور العلم بجانب المستشفى وبجانب المتجر، كل يمارس عمله المنوط به بشكل متوازن، كل ذلك مكن من أن يكون لهذه المدينة هويتها وشخصيتها المختلفة عبر القرون من الزمان. وها هي حلب اليوم تعود مجددا إلى قلب الأحداث، وتحديدا من بوابة الشرق المسيحي. منذ أسابيع شد الرحال إلى حلب رموز مهمة من المارونية السياسية اللبنانية يتقدمهم ميشال عون والرئيس اللبناني السابق إميل لحود وسليمان فرنجية وأعداد كبيرة أخرى للاحتفاء برمز الكنيسة المارونية مار مارون في حلب، وهي المكان الذي كان ينتمي إليه الرجل المولود بإحدى القرى التابعة لحلب. وهي خطوة جريئة ومفاجأة وضد الثقل الماروني الديني الرسمي والمعروف بأن «بكركي» اللبنانية عاصمة أبدية له، ولكن يبدو أنه حتى في هذه المسألة بات هناك قول جديد.

بعض المسيحيين في لبنان يجدون أن «ضمانة» وجودهم السياسي لن تتحقق عبر لبنان ضعيف ومشتت، ولكن من خلال كيان أكبر وهو سورية، وهي فكرة سبقهم إليها الروم الأرثوذكسي أنطوان سعادة مؤسس الحزب القومي السوري الذي كان يطالب بسورية الكبرى في كيان يضم فلسطين والأردن وسورية ولبنان وقبرص. الموارنة اليوم وعلى الأقل القوة الظاهرة منهم اختاروا حلب لإرسال رسالة جديدة حمالة أوجه ودلالات مهمة، أنهم لم يعودا «حصريا» ملكا للبنان الجغرافي القديم. ولم يعد مار مارون شفيع لبنان الجغرافي، ولكن يمكن أن «تتمدد» المارونية السياسية خارج حدود لبنان كما يمكن أن تعاد مكانة مار مارون لجذوره الأصلية لتخلط أوراق المارونية السياسية مجددا وتعاد صياغة المواقع من جديد. إضعاف البطريك اللبناني مار نصر الله صفير كان هدفا واضحا لتيارات مارونية سياسية، وعندما فشلوا في عمل ذلك سياسيا قرروا عمله «ديني»ا من خارج الحدود ومن موقع جغرافي «ذكي» لا يمكن الجدال في أهميته ورمزيته وقيمته التاريخية. ويبقى التأمل فيما إذا كانت هذه مجرد «فشة خلق» مؤقتة، أو هي نهج جديد له أتباع ومريدون، قادر على أن يحدث تغييرا في الطائفة وفي السياسة. الموارنة في لبنان يجاهدون للبحث عن موقع جديد يحافظ لهم على إرث تاريخي مهم ولكنه آخذ في الذوبان، وهذا واقع لا يمكن إنكاره.

[email protected]