حدود الممكن.. الأميركي ـ الإسرائيلي

TT

حين نتحدث عن الجهود المبذولة للإبقاء على الحركة السياسية قائمة، فإننا نجد إجماعا كاملا على هذه النقطة بالذات، فليس لأي طرف من أطراف اللعبة أو المعادلة، مصلحة في وقف الحركة، والقنوط.

أما حين نصل إلى الحديث عن الجدوى، بمعنى إمكانات التقدم إلى الأمام والاقتراب من تحقيق إنجاز، فوقتئذ، لا مناص من رؤية حدود الممكن لدى طرفين اثنين، هما الطرف المقرر في أمر الخلاصات العملية، وهما الأميركي والإسرائيلي.

ونخطئ حين نجمل الطرفين كما لو أنهما طرف واحد، ذلك أن التمايز بينهما أصبح شديد الوضوح، والاختلاف في الرؤى والآليات لم يعد من الممكن إخفاؤه، حتى لو رغب الطرفان في ذلك.

وهنا، وبعد أن نضع أيدينا على هذه الحقيقة الظاهرة، تبدأ رهاناتنا في التبلور، ويطرح علينا سؤال حيوي.. ترى إلى أي مدى نستطيع الاعتماد على هذا التمايز في رؤى وآليات الحليفين اللدودين؟ وهل لدينا القدرة على الإفادة، لمصلحة الممكن من أهدافنا أو مطالبنا؟

لقد وقعنا كثيرا في خطأ التقدير، وفي حالات كثيرة بالغنا في البناء على الاختلاف والتمايزات بين الأميركيين والإسرائيليين. وكلما اكتشفنا ذلك بالنتائج الملموسة، ارتفع منسوب الإحباط عندنا، وتزايدت مبررات التراجع عن الرهانات المألوفة لمصلحة رهانات أقل.. وهكذا..

إن كلمة السر في هذه الظاهرة تكمن في عدم قدرتنا المسبقة على قراءة القدرات والفوارق بين منطوق الموقف، والقدرة على فرضه.

حين يكون الأمر متعلقا بالولايات المتحدة، فقد أصبح التدقيق في أمر القدرة ضروريا في رسم السياسات وبناء المواقف، فإذا كانت الولايات المتحدة هي أقوى قوة في الكون، فذلك لا يعني، وعلى نحو تلقائي، أن هذه القوة مسخرة لتحقيق ما يقال في أميركا - كمواقف سياسية من الأزمات الرئيسية في العالم - فحتى هذه القوة الفلكية لها ضوابط صارمة في التلويح والاستخدام، تكاد تكون هي الضوابط ذاتها التي تتحكم في استخدام القوة لدى الآخرين.. لذا، يبدو بديهيا ومنطقيا أن نرى ما نرى من طرائق أميركية صبورة ومرنة، وأحيانا مرتبكة، في أمر المعالجة العملية للأزمة الإيرانية مثلا، ونرى كذلك تذبذبا وتقدما وتأخرا في أمر معالجة الأزمة الشرق أوسطية، وهكذا.. وبالتالي لم يجد الرئيس أوباما حرجا في الاعتراف بأنه أخطأ التقدير في أمر القدرة، ولو أنه ظل متمسكا بالموقف والآليات.

وإذا ما انتقلنا إلى الطرف الآخر، الذي هو إسرائيل، فهنا يجب التدقيق في أمر الممكن الإسرائيلي ضمن مقياس الوضع الداخلي ومحصلته المتبلورة في قرار ما، إضافة إلى القدرات الإسرائيلية الحقيقية في التأثير على القرار الأميركي، كمختزل عملي للقرار الدولي.

في هذه النقطة، ينبغي الانتباه إلى أن معادلة القرار في إسرائيل غالبا ما ينظر إليها - من جانبنا - كما لو أن إسرائيل مجرد طرف محسوم، وكل ما يصدر عنها ويأتي من جانبها، إما مناورة أو خديعة أو مؤامرة، ومع أن هذا الجانب موجود بكثافة، في السياسة الإسرائيلية والخطط وحتى السلوك اليومي، فإن هنالك أشياء أخرى ينبغي أن ينظر إليها في أمر التقويم، وبناء السياسات، وأعني بها عناصر التأثير جميعها في المعادلة الداخلية، وحدود قدرة أي اجتهاد سياسي في إسرائيل على التبلور كقرار ملزم للدولة العبرية.. وهنا يتعين علينا قراءة قضايا الإجماع في إسرائيل، وقضايا الاختلاف والأشكال، مع قراءة دقيقة للقوى التي تصطف وراء كل موقف.. وقضايا الإجماع ينطوي تحتها مكونات خلاف كبير.. وفيما يتصل بنا، يبدو إجماع العناوين مجرد خلاصة لاختلاف العناصر والتفاصيل.

هنالك إجماع على ضرورة الحل مع الفلسطينيين، واختلافات جوهرية وتفصيلية حول.. كيف؟

هنالك إجماع على ضرورة تقديم تنازلات يصفونها بالمؤلمة، في أمر الحل مع الفلسطينيين، واختلافات كبيرة حول.. ما هذه التنازلات؟

هنالك اقتراب من إجماع على القبول بمبدأ حل الدولتين، ولكن مقابل ماذا؟ وكيف سيكون شكل الدولة الأخرى ومحتواها؟ وما الضمانات التي تريدها إسرائيل من العالم لقاء ذلك؟ وما الضمانات التي تستطيع إسرائيل منحها لتحقيق ذلك؟

إننا نعرف الكثير عن هذا، ومؤسسات البحث عندنا لديها أدق المعلومات والتفاصيل حول هذا كله، ولكن هل كل ما لدينا من معلومات وخلاصات بحثية هي مكون القرار السياسي عندنا؟ وأنا هنا أتحدث عن العرب جميعا، وليس عن الفلسطينيين فقط.

أكاد أكون متأكدا من أمر هو وجود تلك المسافة الشاسعة بين الخلاصات الحقيقية للمعلومات وخلاصات السياسة وبناء المواقف الرسمية.

من هنا تبدو جلية جذور الاضطراب والتناقض والصعود إلى الأشجار العاليات، ويفهم كذلك ظاهرة القفز من الأعلى إلى الأسفل لمجرد وجود غطاء أو لمسوغ عملي أكثر، هو عدم القدرة على القول لا لطلب من جهة نرى أنها قادرة على البطش بنا لمجرد تجاهلنا لأيام!

هنالك ركاكة في آليات القرار وتفسيره أو تبريره، تبدو كما لو أنها ثقافة على جانبنا، وما دمنا نسير في هذا الاتجاه، فلن يبقى أمامنا مع الزمن إلا أن نقبل بما يقسم لنا، إما برضانا أو رغما عنا، ما دامت سياساتنا تصنع بهذه الطريقة.