زيارة أخرى لليابان

TT

مضى ربع قرن تقريبا على أول زياراتي لليابان، تغيرت فيها أحوال الدنيا كثيرا، حيث كانت الأولى عام 1986 بينما كانت الحرب الباردة لا تزال باقية، ولكن كان هناك شواهد على شروخ بدأت تغير من الاتحاد السوفياتي وقتها حينما ظهر غورباتشوف ورفاقه من الإصلاحيين وهم يتحدثون عن «البيرستوريكا». صحيح أن أحدا لم يتصور أيامها أن الشروخ سوف تتحول إلى انهيارات كاملة، والإمبراطورية الشيوعية الأولى في التاريخ سوف تذهب، وليس غيرها، إلى مزبلة التاريخ، ولكن الكل ساعتها من مراقبين ومفكرين كان يعتقد أن اليابان بطريقها إلى العظمة بعد أن أشرفت على مكانة الاقتصاد الثاني في العالم. ولما كنت وقتها قضيت سنة في الولايات المتحدة، فقد كانت الصحف، والكتب أيضا، لا تكف عن المقارنة بين السيارات اليابانية المتينة التي يعتمد عليها، وتلك الأميركية المستهلكة للطاقة وكثيرة الأعطال، وبين «الروبوت» الياباني المتقدم والكثير الاستخدام في الصناعة، وذلك الأميركي القليل العدد، الذي لا ينفع أكثر من الحصول على دهشة الأطفال. كان العصر ساعتها عصر صعود اليابان، وبقيت قضية واحدة شائكة وشائعة عن اللحظة التي تتحول فيها القوة الاقتصادية اليابانية إلى قوة فاعلة في العلاقات الدولية، أو هكذا كان أيامها الاعتقاد الشائع عربيا، حتى إنه لم يترك عربي يابانيا أو أوروبيا يلتقط أنفاسه في مجمع للتفكير قبل أن يسأله: متى تصير دولتكم، أو جماعتكم، قوة عظمى تناطح الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي؟

في تلك المرحلة لم يكن اليابانيون معنيين كثيرا بالسؤال، ولا مهتمين أيضا بالإجابة عليه، وربما تعجبوا أن يهتم العرب بقوة الآخرين ولا يلقون بالا لقوتهم ذاتها، ولم يفهموا قط لماذا ينافسون دولة كانت أسواقها سببا في نهوضهم، أو يناطحون دولة لديها من الأسلحة النووية ما يكفي لإغراق الجزر اليابانية في البحر. ولكنّ اليابانيين مع ذلك كانوا معنيين بالمكانة التي حققوها، وربما كان لديهم فخر داخلي بها، ومن الجائز أنهم لم يكن لديهم هذه الحالة أو تلك لأنهم كانوا يعملون كثيرا حتى إنهم تقريبا توقفوا عن إنتاج الأطفال. وما زلت أتذكر أنني لخصت أحوال اليابان بعد أن زرتها أول مرة بأنها - وهي الدولة الديمقراطية - خليط من الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية. ومن الأولى أخذت عمارة كبيرة وكالحة وميتة في العموم، ومن الثانية أخذت انضباطا وتسييرا لمجتمع وكأنه يعيش كله في معسكر جيش كبير يتحرك فيه الناس بالخطوة السريعة طوال الوقت، وينتظمون في طوابير مشدودة نحو أهداف مجيدة.

هذه المرة عند الزيارة لليابان كانت قد مرت مياه كثيرة تحت الجسور كما يقال، وكما كان الأمر في المرة الأولى فقد كانت الدعوة من وزارة الخارجية اليابانية، ولكن الدعوة أتاحت لقاءات أكثر حتى وصلت إلى رئيس وزراء اليابان الذي كان أول علامات التحولات الكبرى في المجتمع الياباني. فالرجل كسر احتكارا تاريخيا للحزب الليبرالي الديمقراطي الياباني الذي ظل يحكم اليابان طوال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، اللهم إلا من فترة قصيرة خلال التسعينات حتى بات الشائع أن اليابان في حقيقتها تمثل بلدا ديمقراطيا يحكمه حزب واحد!

فوز يوكيو هاتوياما على أية حال جعل الديمقراطية اليابانية حقيقة واقعة، حيث سمحت بتداول السلطة بين جماعات سياسية مختلفة، تماما مثلما فعل باراك أوباما حينما صار تداول السلطة ممكنا بين الأجناس أيضا في الولايات المتحدة. وعندما أجريت حوارا مع هاتوياما كان رأيه هو أن انتخابه كان عودة للسياسة إلى اليابان بعد أن مارسها الشعب في عملية اختيار حقيقية. وبالتأكيد فإن هناك في شخصية رئيس الوزراء ما يشار إليه، وقد شبهه بعض المراقبين بالرئيس الأميركي جون كنيدي، ليس فقط لأصوله الغنية حيث تمتلك جدته لأمه شركة «بريدج ستون» للإطارات، أو لأنه خريج إحدى الجامعات الأميركية المرموقة - ستانفورد - وإنما لأنه طرح برنامجا مغايرا لما سارت عليه اليابان خلال العقود الماضية. وإذا كان يمكن تجسيد الفارق في نقاط محددة فإن أولها يعود إلى الفارق بين الحزب الديمقراطي الياباني والحزب الليبرالي الديمقراطي الياباني، حيث بدا الثاني صريعا للقيم السياسية المحافظة والاعتماد على الكبار من أصحاب المصالح والشركات الكبرى، وإذا كان له دور هام في مرحلة البناء والإعمار بعد الحرب العالمية الثانية فإنه لم يعد الحزب الذي يصلح لإدارة اليابان بعد انتهاء مرحلة الإعمار وزوال الحرب الباردة. وعلى العكس من ذلك فإن الثاني بقيادته الأصغر سنا، وغير الملوثة بسنوات طويلة من الفساد، والأكثر تعرفا على العالم ومتغيراته، فإن لديها من القدرات والسياسات ما يجعلها قادرة على إدارة شؤون اليابان في مرحلة حرجة من تاريخها. وثانيها، الاعتماد على الشركات المتوسطة والصغيرة بدلا من الشركات العملاقة التي أصبحت تمد خيرها إلى الخارج أكثر من الداخل حتى باتت شركات عالمية أكثر منها يابانية. وثالثها، الاعتماد على اليابانيين الأفراد ومبادراتهم أكثر من الاعتماد على البيروقراطية التي يبدو أنها قد ضيقت على الشعب الياباني حتى جعلته - كما قال لي مسؤول ياباني كبير - أشبه بقطار تشده قاطرة قوية وكبيرة بينما عربات القطار كله ضعيفة ومتهالكة. وببساطة كان الاقتصاد الياباني عظيما، على الأقل حتى نشوب الأزمة الاقتصادية، ولكن اقتصاد اليابانيين كان مرهقا حتى عزف شبابهم عن الزواج، واتجه الكثير منهم إلى الانتحار (ثلاثون ألف منتحر في العام). ورابعها، أن التغيرات في العلاقات الدولية تفرض على السياسة اليابانية توجهات مختلفة، وبعد أن كان ميزان القوة في العالم مختلا لصالح الولايات المتحدة بعد الحرب العالية الثانية مما فرض العلاقة الخاصة بين طوكيو وواشنطن، ولكن الحال لم تعد كذلك الآن بعد صعود الصين وكوريا الجنوبية مما يخلق فرصة لتكتل اقتصادي هائل من الدول الثلاث يستطيع التكافؤ مع الاقتصاد الأميركي.

على هذه الواجهة من المقابلة بين الحزبين الديمقراطي في ناحية والديمقراطي الليبرالي من ناحية أخرى، فإن المقابلة الثانية الجارية بين الساسة اليابانيين هي تلك الواقعة بين اليابان والصين حيث تراها جماعة منافسا، وربما خصما، أساسيا لليابان، وعندما يكون الناتج القومي المحلي للأخيرة هو 5075 مليار دولار، والأولى 4900 مليار، فإن الفجوة لم تعد كما كانت، ولحظة الوصول الصيني لم يعد هناك شك فيها. أما الجماعة الأخرى، وهي بالمناسبة واقعة داخل الحزبين، فهي أن عدد سكان الصين يمثلون عشرة أمثال سكان اليابان، ومن ثم، وعاجلا أم آجلا، حسب رأى يوكيو هاتوياما رئيس الوزراء، سوف تكون هي الدولة ذات الاقتصاد الثاني في العالم، ومن ثم فإن قضية اليابان ليست المنافسة مع الصين على المكانة الثانية وإنما التعاون معها، ومع الولايات المتحدة لخلق عالم مختلف. ومن هنا فإن اليابان سوف تكون هي الرابط ما بين تحالف باسفيكي يضم الولايات المتحدة واليابان، وتحالف شرق آسيوي يضم اليابان والصين وكوريا الجنوبية.

آخر المقابلات تجري بين الماضي والحاضر، وربما لا يلتقي الحزبان الرئيسيان، الفائز والمهزوم، على شيء قدر نظرتهم إلى ما يعتبرونه تدهورا في أحوال الجيل الحالي من اليابانيين. وبالنسبة للحزب الديمقراطي الليبرالي فإن التدهور يعود إلى حالة الغنى التي مر بها اليابانيون وأفقدت شبابهم تلك القدرة على العمل والكفاح والمغامرة والاستعداد للعمل من أجل مكانة متقدمة لليابان في النظام العالمي. الحزب الديمقراطي لديه وجهة نظر أخرى، وهي أن المسألة كلها هي أنه لم تحدث التنمية البشرية بالقدر الكافي في اليابان خلال العقود الأخيرة، وعلى حد تعبير رئيس الوزراء هاتوياما فإن الحجر أو الأسمنت تفوّق على البشر خلال الحكومات اليابانية المتعاقبة، وكان ممكنا الإنفاق على بناء المشروعات الكبرى بينما لم يكن متاحا الكثير لبناء الإنسان. وهذا كله ليس جديدا بالمرة علينا، فربما استمعنا إليه مرارا وتكرارا في الدول العربية المختلفة، وإذا كانت اليابان لم تهتم كثيرا، أو كما تحب، بالتنمية البشرية فكيف يكون الحال في الدول العربية؟