المرأة في المحاكم.. وأنساق القيم

TT

ما أسعد الله وأسعد عدالته بإرجاع الحق إلى أهله، وانزجار الظالم عن ظلمه، وعودة الحق المسلوب إلى مستحقيه، وما أسعد من قال: «ويحك! من يعدل إن لم أعدل» بتحقيق العدالة للبشرية جمعاء.

هذا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أعدل الخلق، يقول: «خيركم خيركم إلى أهله وأنا خيركم إلى أهلي»، لا خير في رجل يجبر امرأة إلى طرق الأبواب من أجل حقها في حضانة طفلها، من أجل عتقها من عذاب، من أجل شفقتها ورحمتها على بناتها، من أجل العض على أصل شجرة فرارا بدينها وكرامتها وإنسانيتها، من أجل انعتاق من جحيم لا يطاق من بغض شاق، من أجل إرجاع حديقته والتسريح بإحسان.

خانقة للعبرات بعض وقائع الضعيفات يلجأن لأبواب العدالة لتحقيق العدالة، يزيد من عنائها تأخيراتي وتقاعسي عن رد المظالم الواقعة عليهن، وكثيرا ما أقف عند منعطفات الدنيا أمام مجهود لا يطاق ومسؤولية عظيمة ملقاة على عواتقنا. والله الذي لا إله إلا هو تمر أيام صعبة بي لا أنام إلا ساعتين في اليوم بسبب قضية مرفوعة أطارت عن أجفاني النوم بسبب التفكير في حلها.

حقيقة، محبط لهن إنغلاق سبل الحصول على الحق بالطرق الودية وغير الودية، والمشرق في النهاية أن العدالة ستقول كلمتها إن في الدنيا وإن في الآخرة ولا يضيع عند ربك حق.

وفي هذا المقام أطرح تساؤلا: هل بيئة العمل الرجولية؟، أليس من السهل بمكان توليف حلول عمل أنثوية غير معهودة سابقا للتعامل معها؟، وأنه لا بد من معالجات شديدة التحرز تحفظ خصوصية المرأة والقيم الشرعية والمجتمعية، والتي تربى عليها، جيلا بعد جيل وعمرا بعد عمر، والتي هي تشرب صاف للمحددات الشرعية الحاسمة والمدعومة بقرارات سيادية تعالج المستجدات لهذه التطبيقات، بالتأكيد نعم، لأنه من أكبر الإشكاليات في مسارات الاجتماع هي انخرام قيم المجتمع والعرف الدارج ولن نأتي بثقافتنا الأثرية لمناقشة القيم ولكن لنأتي بما لدى منظومات القيم الأخرى و«الحكمة ضالة المؤمن».

آموس هاولي Hawley، وهو من كبار منظري الاجتماع العالمي، يؤكد أن المجتمع أكثر من مجرد تنظيم لعلاقات التكافل بين الأفراد، وأن الحياة المجتمعية تشتمل على قدر من التكامل النفسي والأخلاقي والقيمي، إلى جانب التكامل التكافلي أو المعيشي، وأنه يتعين على الباحث أن ينظر إلى الجوانب النفسية والأخلاقية والقيمية على أنها مظاهر متكاملة، وليست مختلفة، خاصة وأن الأنشطة المعيشية وما يرتبط بها من علاقات تكافلية تتداخل وترتبط بمجموعة المشاعر والأحاسيس وأنساق القيم والمعايير الأخلاقية وغير ذلك من موجهات السلوك والتفاعل اليومي. وهو ما يفرض لزاما إجراء استقراء شامل وواف للإشكاليات لهذا الأمر والحلول الشرعية والنظامية والواقعية والمصلحية لهذه الإشكاليات.

فالرأي الشخصي والاجتهاد المخالف للعرف الدارج التشاركي العام لا يكفي للإصلاح والتغيير، بل لا بد من التشارك والمشاركة في تجاوز هذه السلبيات الاشتراكية. وفرض الواقع يقابله واقع يفرض نفسه.

إن الوعي بالذات Self awareness كإحدى خصائص المجتمعات المولدة للشعور بالانتماء والتميز والاعتزاز والمباهاة بالقيم والولاء له والدفاع عنه، وعدوة هذا الوعي يكون الأشد في المجتمعات المحافظة ذات الهوية المتماسكة. والتي كثيرا ما تخلق، مثل هذه الاتجاهات والآليات (الميكانزمات) النفسية والاجتماعية، حواجز نفسية، قد تفوق أحيانا ما للحدود أو الحواجز الطبيعية من دور في هذا السياق. فهذا الوعي بالذات يشعر بالاستفزاز ممن يمس من قيمه السائدة، هذه المقاربات نلمحها من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:«حدثوا الناس بما يعقلون أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله»، وبقول عائشة: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة». وعن ابن عباس، رفعه، «لا تحدثوا أمتي من أحاديثي إلا ما تحمله عقولهم، فيكون فتنة عليهم، فكان ابن عباس يخفي أشياء من حديثه، ويفشيها إلى أهل العلم»، وللديلمي أيضا عن ابن عباس، رفعه، «يا ابن عباس لا تحدث قوما حديثا لا تحتمله عقولهم». وروى البيهقي في الشعب عن المقدام بن معدي كرب مرفوعا «إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بما يعزب عنهم ويشق عليهم». وعن أبي ذر مرفوعا «خالقوا الناس بأخلاقهم»، وعن ابن مسعود «خالط الناس بما يشتهون، ودينك فلا تَكْلِمْه»، ونحوه عن علي رفعه، «خالق الفاجر مخالقة، وخالص المؤمن مخالصة، ودينك لا تسلمه لأحد»، وفي حديث أوله «خالطوا الناس على قدر إيمانهم».

هذه الإشارات الأثرية تعزيز لثقافة السائد، وهي مصالح عليا دائما نضعها في أي اعتبار جديد، تستوجب الدراسة الشاملة والوافية لآثار السياسات الجديدة المخالفة لما استقر في عرف بيئة العمل.

ولذا، أعتقد أن الحديث عن عمل المرأة كمحامية في المحاكم من المبكر الحديث عنه، لأنه مستجد على منظومة القيم السائدة المتطلبة تهيئة بيئة العمل المستقلة تهييئا كاملا، رضوخا أمام القيم السائدة، حيث يحتاج الأمر لمعالجة حقيقية عملية تحفظ كيان المحاميات من الخدش أو الإساءة، ورأيي أن الأمر بحاجة إلى إجراء حوار هادئ وشفاف مع الآراء المحافظة المحترم رأيهم في عمل المحامية كمحامية، عن المرأة في أماكن العمل وما يخشونه من السلبيات المجتمعية المرتبطة بذلك وتعرض المرأة لما يخدش من كرامتها، مما يكون له ردود سلبية تعرض المسيرات للارتباك والإساءة. أقول هذا بحكم أننا قضاة ولدينا شيء من الاطلاع المتواضع ونوع استقراء لحركة المجتمع وحالته الأخلاقية وتعزز القيم فيه.

أنا لست ضد عمل المرأة محامية، ولكن المجتمع لا يفهمه إلا بخصوصية خاصة.

نظام المرافعات عالج بعض صور معاناة قضايا المرأة في أحقيتها في مسائل الزوجية في رفع الدعوى في أي مكان دون الارتباط بالنطاق الولائي المكاني للمحكمة في الدعوى المرفوعة. والضرورة الملحة تقتضي منا مزيدا من الاهتمام بقضايا المرأة في المحاكم ومعالجة جذرية أمام معاناتهن وحصر الإشكاليات التي تواجههن ودعم المحاكم بالوسائل الإبداعية لمواجهة هذه العقبات. دون ذلك تصبح المعالجات جانبية يخشى من عدم جدواها.

إن عدم تجاوزنا للعقبات في وجه حق المرأة في الحصول على العدالة الكاملة في المحاكم هو في حقيقته قصور في العدالة يجب رفعه.

القيمة الجديدة بغير وسائل حمائية في مواجهة القيم السائدة ستسبب صدمة مجتمع، وهذا ما يدعونا إلى وجوب إعطاء الأمر خصوصية خاصة، وهذه الخصوصية المطلوب توفيرها للمرأة ضرورة يفرضها النمط العام.

المجتمع غير المتشبع لبعض الجوانب والرغبات السلوكية يسعى للإفراط في تحقيق هذه الرغبات عند إغراق المحيط بها، مما يسبب صدمات اجتماعية ليس من السهل التنبوء بآثارها.

ومع هذا الانفتاح الإعلامي الرهيب وهذا التنميط العام المسيء للقضاء في المملكة العربية السعودية، فهل من الجميل أن نقرأ صباح مساء حالات ابتزاز للنساء أو إساءة تخدش بكرامتهن تحصل في نحونا، ولا علينا من فقراء الأخلاق. هل نتوقع أننا سنرصد ما يسيء إلى عدالة الأجهزة العدلية بالمملكة حينئذ، أم نتوقع أن الإساءة للقضاء من الخطوط الحمراء التي لا يقترب منها الإعلام. وأنه يسعى جاهدا لتعزيز ثقة الناس بعدالة قضاء المملكة العربية السعودي، وبالتالي سنسلم من هذا الصداع.

مما يعزز ذلك هو شبه انعدام سوق العمل من وجود المتخصصات في الأنظمة والقانون، وقد يكون في اقتصار المحاماة النسائية في قضايا الأحوال الشخصية فيه حل لمعاناة المرأة في قضايا الأحوال الشخصية، ولكن أيضا معاناة المرأة موجودة في القضايا التي ليست من الأحوال الشخصية كالجنائية والإنهاءات الثبوتية والحقوقية العامة. بل معاناة المحاميات أنفسهن من بيئة العمل الرجولية السائدة، ومن غير المنطقي التعامي عنها.

المنظومة العدلية العريضة في المملكة لا تختزل بحالة، وإنما هي مسيرة طويلة من البذل والتشارك والتكامل بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء والقضاة وجميع منسوبيها. وهو عمل مؤسسي راسخ وعريق منسجم مع كيان يمارس حقيقة تحقيق العدالة على ضوء الكتاب والسنة والانسجام مع الأنظمة، ومراعيا السياسات العامة لولاة الأمر حفظهم الله. وهذا هو سبب حديثي عن وجوب إجراء حوار مستفيض واستقراء شامل حول مثل هذه القضايا، التي يعتبرها الكثير من أبناء الوطن مفصلية وحدية.

قد لا نختلف في الفكرة، ولكننا نختلف في المعالجة، قد نحب سرعة حصد ثمار النهايات دون التطور الموضوعي السليم، والتمرحل القيمي المدروس والعمل الاستراتيجي الاستشرافي. هل ثقافة البيئة المحيطة تدعم ذلك؟ بل هل محاكمنا مهيئة لذلك؟. الحقيقة أننا بهذه القفزات الاختزالية غير المحمية نحل مشكلة بمشكلة أخرى.. وفي الجانب المقابل، البعض يعيش رهابا مقعدا أمام الجديد ولا يريد حل السلبيات خوفا من السلبيات، وعندما نقول لنتجاوز السلبيات وندرس الأمر.. يقف أمام الفكرة. بالتأكيد أننا لسنا معه.. بل نعم لدراسة السلبيات وحلها بشمولية جذرية.

المجتمع يفخر بحق بولاة أموره وحق له الفخر لأنه يلمس منهم النظرة الحانية والاحترام البالغ لرأيهم فهذا خادم الحرمين الشريفين يجيب الصحافية الأميركية بربارا وولترز Barbara Walters الصحافية في شبكة «ABC News» الأميركية عندما سألت: ألا يمكنكم بكل بساطة إصدار أمر ملكي تجيزون فيه للنساء قيادة السيارة؟ أنت ملك. فأجاب الملك عبد الله: «أقدر شعبي وأهتم به بعناية كبيرة. نعم أنا أحترم شعبي وأحرص على سعادته ورفاهيته، ويتعذر علي القيام بشيء ما لم يكن مقبولا بنظر شعبي».

* قاضي الأحكام البديلة بمحكمة صامطة العامة في السعودية