التنصير واليورو والتأشيرة

TT

إن حساسية بعض المواضيع لا يمكن أن تشكل حاجزا أمام ضرورة إثارتها وإخراجها من دائرة المسكوت عنه، خاصة إذا كانت مواضيع خطيرة وذات دلالات تقتضي الشجاعة الأدبية مواجهتها.

ولعل ظاهرة حملات التنصير وفرق التبشير، التي تجتاح سريا كثيرا من البلدان العربية والأفريقية، من الإشكاليات المقلقة جدا، والتي تستدعي انتباها خاصا وقراءة عميقة، لا تتوقف عند تحميل الآخر المسيحي المسؤولية.

إنها ظاهرة تستحق منا المواجهة الرصينة والتحلي بالقدرة على تحمل المسؤولية أيضا. فالسؤال الذي ينبغي طرحه بفضول حقيقي للفهم هو: لماذا يرتد بعض الشباب العربي عن الدين الإسلامي ويدخل الديانة المسيحية؟ وما السر في نجاح حملات التنصير، الشيء الذي جعل عدد المتنصرين يتكاثر بنسق حثيث؟

في الحقيقة ودون التركيز على بلد عربي معين دون بلدان أخرى، فإن الثابت هو أن ظاهرة التنصير في صفوف الشباب العربي، هي اليوم ظاهرة تعرفها أغلبية الدول العربية، حتى وإن كان نشاط هذه الحملات يختلف من بلد عربي إلى آخر. ومن الخطأ النظر إلى هذه الظاهرة في معزل عن المشكلات التي يعيشها الشباب العربي حاليا، إذ إنها نتاج للواقع الاقتصادي والسياسي والثقافي العربي، وذات صلة بمشكلات البطالة والفقر، وأزمة الهوية، وحالة الفراغ التي يعرفها معظم الشباب العربي اليوم.

ومما يؤكد هذه الملاحظة، الاستراتيجية التي يقوم عليها العمل التبشيري الذي يستثمر هذه المشكلات لتقديم إغراءات مادية، تؤثر في خيارات الشباب. فهي استراتيجية ممنهجة وملمة بالحالة النفسية والاجتماعية للشباب العربي، وتستغل حاجته للمال، وللحصول على التأشيرة، وللقيام بالهجرة، وفي المقابل تطلب منه «التنصر».

فليس من باب الصدفة أن فرق التبشير التي تخترق الأوطان العربية تحت عباءة الشركات والجمعيات الخيرية، وغير ذلك، التوجه إلى فئة معينة من المجتمع، وتلك المناطق التي تعرف الخصاصة، فتقدم للشباب المستعد للتنصر تسهيلات تساعدهم على الدراسة في الخارج، إضافة إلى مبالغ مالية تعتبر مهمة بالنسبة إلى شباب عاطل عن العمل، وفارغ الجيب.

ومن هذا المنطلق تصبح الاستجابة إلى حملات التنصير تعبيرا عن نوع من الاحتجاج الاجتماعي باسم الارتداد عن الدين الإسلامي، ولولا الميزانية الضخمة الموكولة لمشروع التبشير في صفوف الشباب المسلم لما استطاع المبشرون استمالة هؤلاء الشباب، وهو ما يزيد في التأكيد أنهم متنصرون شكلا. وهكذا فإن الحملات التبشيرية تؤدي أغراضها في جميع الحالات، فإذا كان الشاب صادقا في دخوله للدين المسيحي فإن المسيحية قد ربحت مسيحيا جديدا تواجه به تكاثر عدد المسلمين في أوروبا. وإذا كان الشباب المتنصر يتحايل على المبشرين ليتمتع بالإغراءات، فإن النتيجة واحدة، إذ يعني ذلك ضعف الوازع الديني لدى هؤلاء الشباب، وأنهم يعيشون أزمة هوية وأخلاق، وبالتالي فهم لا يشكلون رصيدا مهما.

إن خطورة ظاهرة انتشار الحملات التبشيرية المقنعة في بلداننا العربية والإسلامية تحتاج إلى وقفة حقيقية ضد الأسباب التي تجعل هؤلاء الشباب يفرطون في دينهم من أجل المال والتأشيرة، ذلك أن البطالة والفقر كما ينتجان إرهابيين فإنهما أيضا يفرزان شبابا لا يمانع أبدا في مغادرة دينه إلى ديانة أخرى، وهي أقصى مظاهر الاحتجاج وأخطرها. كما أن حالة الفراغ الديني وسقوط الساسة ورجال الدين في لعبة تسييس الدين، كل هذا خلق الفراغ وأزمة هوية وأشكالا رهيبة من الاحتجاج الاجتماعي على رأسها قوائم الشباب المتنصر.