الاختبار العراقي.. والعربي أيضا!

TT

هناك لحظات في التاريخ تكون فاصلة في حياة الأمم، وفى هذه اللحظة التي يتوقف عندها مستقبل الشعوب والدولة يبرز دور النخب، وربما حفنة من الأفراد، وعلى الأغلب إنسان واحد يتخذ القرار الحكيم الذي ما بعده من الأيام لا يصير كتلك التي قبله. وهذه اللحظة يعيشها العراق الآن بعد انتهاء انتخاباته التشريعية، وربما توقف نبض التاريخ انتظارا لقرارات حكيمة وحاسمة تتخذها حفنة من العراقيين يقع في مقدمتهم إياد علاوي الفائز بأعلى عدد من المقاعد في المجلس التشريعي (91 مقعدا)، ونوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الحالي والذي حصل على العدد التالي من المقاعد (89 مقعدا).

ولا توجد هنا نية لمراجعة موقف كل منهما وجماعته ساعة كتابة هذا المقال، وليس معروفا كيف سيكون الحال ساعة نشره بعد أيام، فربما تكون اللحظة قد مرت بسلام، أو أنها لا تزال تنتظر الكثير من التعقيد، أو أنها – لا قدر الله - قد قادت إلى تمزيق العراق مرة أخرى، وربما وضعت بذور حرب أهلية. وأيا كانت النتيجة فإن ما سيحدث لا أساس له إلا نضج نخبة، وسلامة بصر وبصيرة قادة، قادتهم الظروف إلى تلك اللحظة التي تتوقف عندها مصائر البلاد والأوطان. إنها اللحظة ذاتها التي وقفت أمام نيلسون مانديلا بعد خروجه من السجن وبات ممكنا لأول مرة القضاء على نظام التفرقة العنصرية، والعزل العنصري، في جنوب أفريقيا. ولكن لم يكن على المائدة ذلك فقط، بل كانت هناك مجموعة من القضايا التي تحسم مستقبل البلاد، كان أولها مصير الأقلية البيضاء التي لم ترحم أبدا لا مانديلا ولا رفاقه، ولا المواطنين أصحاب البشرة السمراء. وثانيها كان على نفس المائدة السلاح النووي لجنوب أفريقيا الذي لم يتحدث عنه الناس كثيرا، ولكنه كان موجودا، أو إذا شئت الدقة كانت كل مفرداته جاهزة لكي يكون سلاحا. وثالثها كان قضية توزيع الثروة التي كانت توزعت بالظلم كله بين البيض والسود على مدى زمن طويل.

كل هذه القضايا كانت كفيلة بتوليد روح الانتقام من الظالمين، ومن بعدها إعادة توزيع الثروة كما حدث بعد ذلك في زيمبابوي، وفوق ذلك كله امتلاك سلاح نووي كان كافيا لكي يضع جنوب أفريقيا بين صفوف الدول الكبرى. ولكن مانديلا كان حكيما، والحكمة تعرف حدود القوة كما تعرف كيف تكون الأولويات، وكانت الأولوية هي إزالة التفرقة العنصرية، ووضع جنوب أفريقيا على الطريق الديمقراطي، ووضع نهاية للحرب والصراع، وكلاهما كان على الفقراء شديد الوطء والخشونة. وهكذا كان لدى مانديلا قدرة العفو عند المقدرة، وحكمة الاستفادة من البيض وثرواتهم وخبراتهم في بلد فقير بدلا من الانتقام منهم، وبُعد النظر الذي جعله يفكك كل ما لديه وله علاقة بالأسلحة النووية. وفوق ذلك كان لديه قوة المثال، عندما جعل قيادته للبلاد لفترة زمنية واحدة كانت كافية لإرساء الأساس الديمقراطي والمؤسسي لدولة كبيرة؛ وكان ذلك ما فعله منذ قرابة مائتي عام جورج واشنطن عندما غادر مركز السلطة بعد فترتين رئاسيتين فقط. فلمن لا يعلم فإن الدستور الأميركي عند بدايته، وحتى الخمسينات من القرن الماضي لم يكن يحدد فترات رئيس الجمهورية، ولكن هذا التحديد جاء نتيجة القرار الحكيم الذي اتخذه الرئيس الأول، ولم يجرؤ أحد على تجاوزه بعد أن وضع القاعدة، حتى أجبرت ظروف الحرب العالمية الثانية الرئيس روزفلت أن يحصل على فترة ثالثة للرئاسة فأجبر المشرعين على تعديل الدستور حتى لا تجبر الظروف، ومنها حرب عالمية، الشعب الأميركي على انتخاب رئيس ثلاث فترات.

كان الأمر بالنسبة لمانديلا وجورج واشنطن لحظة أن تحصل على كل شيء ولكن الوطن يفقد الكثير أو لا يحصل على شيء مطلقا؛ وفى الولايات المتحدة كان مصير الأمة كلها معلقا على قرار التحول إلى دولة فيدرالية ديمقراطية على إمكانية القبول بولايات تسمح بالعبودية داخلها، والمدى الذي يمكن به قيام الاتحاد، بينما تستطيع ولايات أن تتوسع وتكبر في اتجاه الغرب فتتغير التوازنات بين الولايات الثلاث عشرة المكونة للدولة الجديدة. وساعتها كان على الليبراليين في الأمة أن يبتلعوا مبادئهم ويقبلوا وجود ولايات الجنوب التي تحتفظ بالعبيد؛ كما كان على الولايات الكبرى أن تقبل بأن تبقى حدودها على ما هي عليه حتى إذا جرى توسع آخر في اتجاه الغرب يكون من أجل إنشاء ولايات جديدة. وكانت اللحظة لابتلاع الكبرياء، والطمع، وغطرسة القوة، من أجل وضع أساس لدولة عظمى.

هذا الأساس للدولة العظمى كاد يهتز في خريف عام 1960 عندما جرت انتخابات الرئاسة بين كنيدي ونيكسون، وكانت انتخابات حامية الوطيس، عرف منها وذاع مناظرة تلفزيونية جرت بين مرشحي الرئاسة، ولكن ما غاب عن الذاكرة هو أن الانتخابات كانت متقاربة إلى الدرجة التي باتت متوقفة على نتيجة ولاية إلينوي. وفي ذلك الوقت كان يحكم مدينة شيكاغو ريتشارد ديلي، أحد أساطير البناء والفساد في التاريخ الأميركي، فما كان منه إلا أن قام بتزوير 100 ألف صوت كانت كافية لكي يكسب كنيدي شيكاغو، وكان كسب شيكاغو كافيا لكسب ولاية إلينوي، وكان كسب إلينوي كافيا لكي يكون كنيدي رئيسا للولايات المتحدة.

وهكذا جاءت اللحظة التاريخية لريتشارد نيكسون الذي أصبح رئيسا بعد ثماني سنوات ومن بعدها ذاع ذكره مرتبطا بفضيحة ووترغيت، فقد كان تزوير ديلي لا شك فيه، وإذا طرح الأمر على المحاكم لتغيرت النتائج وأصبح البيت الأبيض قريبا، ولكن الثمن للولايات المتحدة كان سيكون فادحا من سمعتها، ومن استقرارها، ومن قدرة مؤسساتها بعد ذلك على اتخاذ القرار. وكان قرار نيكسون هو أن ينتظر ليوم آخر، ولا يكون سببا في ضرر للولايات المتحدة. والأمثلة بعد ذلك لا حصر لها في التاريخ، حيث يكون الفارق بين العظمة والضعة محض لحظة يختبر فيها الإنسان قبل الأوطان؛ وهذه اللحظة هي ما يعيشه العراق الآن، وبوسع نوري المالكي أن يشكك في نتائج الانتخابات، ويتساءل عن دور الأمم المتحدة، ويطعن في كفاءة منافسيه، ولكن المسألة هي أنه لا يمكن الطعن في قواعد اللعبة بينما تجرى المنافسة، كما أن الموازنة في السياسة تكون دائما حول القرار الذي يكون أقل تكلفة.

وإذا كان هناك درس من التاريخ العراقي القريب فهو أن التكلفة تكون دائما عالية ودامية؛ ومن المدهش أن يكون ذلك هو الثمن الذي هدد به المالكي بعد ظهور نتيجة الانتخابات وما صاحبها من إحباط وخيبة أمل. وسواء كان موقف المالكي صحيحا أو خاطئا فإن القضية هي الثمن الذي يدفعه العراق لقاء إثبات صحة وجهة نظر رئيس الوزراء، حيث سيضيع احترام المؤسسات، وتصور إمكانية انتخابات حرة، ويضيع استقرار لعب المالكي نفسه دورا تاريخيا في تحقيقه. ومع كل ذلك سوف تضيع فرصة كبيرة في العالم العربي كله لإثبات القدرة على إدارة عملية ديمقراطية بعد أن فشلت المسألة من قبل في السودان وموريتانيا وفلسطين حينما جرى الانقلاب على الديمقراطية بعد أن باتت مطبقة بالفعل.

لقد كتبت هنا منذ أسابيع عن عودة السياسة إلى العراق نتيجة العملية الانتخابية، والعراق ليس بلدا عربيا عاديا، ونتيجة اختباره سوف تخص العالم العربي كله، حيث ستكون الشهادة إما على أنه من الممكن وجود نظام ديمقراطي في دولة عربية؛ أم أن الثقافة والنخبة العربية لا تعرفان هذا المفهوم حتى ولو جرى الحديث عنه كثيرا. فما إن تبدأ اللعبة السياسية في الحركة حتى يجري الجميع مشككين فيها، جاعلين من «التزوير» أمرا من طبيعتها، وليس استثناء من حركتها. وفى النهاية إذا لم تكن انتخابات حرة وتحرسها الأمم المتحدة، وعشرات من المنظمات الأهلية، وتراقبها كل أنواع الإعلام الدولي، ويقف المراقبون والمرشحون والمندوبون وراءها؛ فمتى وأين يمكن إجراء انتخابات حرة لا يعترض عليها ولا يقاطعها أحد، وفوق ذلك لا تكون نتيجتها مقدمة للتهديد والوعيد؟