الفكر العربي في رحاب اليونسكو

TT

عشنا أخيرا يوما حافلا وجميلا في رحاب اليونسكو على شرف الفكر العربي والآداب العربية أيضا. وقد نظمته الهيئة المشرفة على توزيع «جائزة الشارقة للثقافة العربية» التي أسسها منذ عام 1998 عاهل الشارقة الأمير الدكتور سلطان بن محمد القاسمي. وقد حرصت المديرة العامة الجديدة لليونسكو البلغارية إيرينا بوكوفا على أن تحضر الجلسة الختامية شخصيا معبرة بذلك عن اهتمامها الكبير بالثقافة العربية. افتتح الجلسات محمد أركون بطاولة مستديرة مع كل من الفيلسوف الفرنسي أوليفييه آبيل، والمفكر الأميركي ستيفين همفريز. وكان الموضوع هو التحديات أو العراقيل التي تواجه حوار الثقافات المختلفة. أركون ركز على الفكرة التالية: ليست الأديان هي التي تمنع حوار الثقافات أو التقارب بين البشر والحضارات، وإنما التشكيل الدوغمائي للإيمان الديني. وهو تشكيل حصل في القرون الوسطى على يد فقهاء الأديان الثلاثة الذين فسروا النصوص الدينية الكبرى بشكل منغلق ومتعصب ضد الآخرين. فالنصوص المقدسة في رأي أركون تظل منفتحة معنويا وقابلة لعدة تفسيرات واحتمالات ولكن هذا الانفتاح خنق لاحقا وأغلق من قبل رجال الدين. ولذا، دعا المفكر الجزائري الكبير إلى خروج جميع الثقافات من طائفيتها وانغلاقيتها لكي تتماشى مع روح اليونسكو المنفتحة المتسامحة ثم لكي نبلور ثقافة كونية واسعة تتسع أحضانها لكل شعوب العالم من دون أن تلغي التعددية والخصوصيات. فالنمطية الثقافية غير مستحبة.

وعندئذ التقط هذه الفكرة الفيلسوف الفرنسي أوليفييه آبيل مدير «المعهد البروتستانتي» في باريس، مشيرا إلى أن الثقافات ليست مطالبة بالانفتاح الكامل وغير المشروط وإلا لماعت وذابت وفقدت طعمها وخصوصيتها. ولا يستحب بالطبع أن تنغلق على نفسها وتتقوقع على ذاتها في نوع من الأصولية المتعصبة الكارهة للآخر ولأي اختلاف ديني أو ثقافي. وبالتالي فهناك مزيج مرن من الانفتاح والانغلاق ينبغي على الثقافات البشرية أن تعرف كيف تمارسه. وهذا ما دعا إليه كلود ليفي ستروس في خطابه الشهير في اليونسكو عام 1953. وبالتالي، ينبغي أن نعرف كيف نمارس الانفتاح من خلال الانغلاق أو الانغلاق من خلال الانفتاح. وهنا تكمن مهمة الترجمة التي هي الوسيلة الأساسية للانفتاح على الآخرين. وأستشهد هنا بالفيلسوف الكبير بول ريكور الذي أعطى أهمية حاسمة للترجمة كأداة تواصل بين الثقافات والشعوب.

أما المفكر الأميركي ستيفين همفريز أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ميتشغان فقد كان صريحا واضحا معنا. فقد اعترف بأن المشكلة الأساسية هي بين أميركا والعالم الإسلامي. فأميركا واقعة في صدام مع العالم العربي بسبب الصراع العربي الإسرائيلي. وواقعة في صدام مع العالم الإسلامي بسبب 11 سبتمبر (أيلول). ولكن ألا يوجد مخرج من هذا الصراع الجهنمي؟ في رأيه أن المخرج لن يكون عن طريق رجال الدين التقليديين وإنما عن طريق مثقفي الحداثة من شعراء وروائيين ومسرحيين ومفكرين ومبدعين. فهؤلاء هم القادرون على الانفتاح الثقافي على الآخرين. وهم الذين نستطيع أن نتحاور معهم فعلا. ولذا، دعا الغرب إلى ترجمة أعمال المبدعين العرب والتعرف عليهم أكثر ووضع حوار الحضارات على هذه الأرضية بالذات. وقال: «لا أكتمكم سرا بأن الشعب الأميركي يعتبر قيمه في الحرية والديمقراطية من أفضل القيم، ولكنه عموما شعب متسامح ومنفتح». هناك فكرة أضافها أركون في خطابه الاختتامي للجلسات وقال فيها إن على العرب أن يقلدوا الاتحاد الأوروبي. فهذا الاتحاد عرف كيف يتجاوز الانغلاقات القومية وتنفتح أممه بعضها على بعض، ويشكل أكبر فضاء للحريات الفكرية في العالم المعاصر. وكذلك الأمر فيما يخص العرب؛ فينبغي أن ينفتحوا بعضهم على بعض وعلى العالم، وأن يشكلوا فضاء واسعا للمناقشات الفكرية. وقال إن أوروبا هي التي اخترعت حرية الفكر والنشر والتعبير منذ عصر النهضة والتنوير وحتى اليوم. وينبغي على كل الحضارات الأخرى، وليست فقط الحضارة العربية الإسلامية، أن تقلدها من هذه الناحية أو أن تستلهم تجربتها على الأقل.

في الطاولة المستديرة الثانية تحدث كل من الباحث السوري فاروق مردم المسؤول عن ترجمة آدابنا العربية إلى لغة موليير وفولتير، والسيدة إيزابيلا كامارا دافليتو أستاذة اللغة والآداب العربية في جامعة روما. وقدم فاروق صورة بانورامية عن وضع الترجمة الخاصة بأدبنا العربي في فرنسا وبقية بلدان أوروبا. وفوجئت، أو قل لم أفاجأ في الواقع، بأن رواية علاء الأسواني، «عمارة يعقوبيان»، قد اكتسحت الساحة الفرنسية بثلاثمائة ألف نسخة! وهو رقم قياسي لم تبلغه حتى روايات نجيب محفوظ. ولكنها تستحق ذلك. فهي إحدى روائع الأدب العربي وربما العالمي. ولكن فاروق مردم اعترف بأن ترجمة آدابنا إلى اللغات الأوروبية الأخرى كالإسبانية والإيطالية والألمانية لم تقلع فعلا إلا بعد نيل نجيب محفوظ جائزة نوبل. فشكرا لنجيب محفوظ مرة أخرى لأنه رفع رأسنا عاليا حيا وميتا.

في الطاولة المستديرة الثالثة تحدث كل من الشاعر العراقي المعروف كاظم جهاد الذي أتحف مكتبتنا العربية بترجمات كبرى لرامبو وريلكه وسواهما، والناقد المغربي الكبير محمد برادة. الأول قدم لنا صورة متكاملة عن الشعر العربي منذ أقدم العصور وحتى اليوم، والثاني تحدث لنا عن وضع الرواية العربية. وكلاهما أعطى رأيه في كيفية التعريف بأدبنا في الغرب أو نقله إليه. في الختام يمكن القول إن هذه الجلسات ساهمت في التعريف بنا أكثر، وفي التقريب بين الثقافة العربية والثقافة الغربية. ولكن الطريق لا يزال طويلا حتى يزول سوء التفاهمات التاريخي بين الطرفين.