السلامة قبل الندامة

TT

خلال زيارتي سلطنة عمان قبل أيام، وجدت البلد في شغل شاغل بموضوع السلامة في الطرق. تكلم مندوبها في الأمم المتحدة عن الإجراءات التي اتخذتها بلاده في هذا الشأن. فمن ملاحظاتي في هذا البلد العربي أنه كثير الحساسية بالنسبة إلى فقدان حياة أي مواطن، إلى درجة تذكرني بإسرائيل. عندنا في العراق الموت عشرة بفلس، ولا أحد يسأل عمن يموت. ولكن الوضع يختلف عند العمانيين. ربما لأن نفوسهم لا تتجاوز المليونين، فيهمهم أن لا ينقص أحد منهم من دون سبب، ولديهم جداول إحصائية مفصلة في الموضوع، حتى أن الأمم المتحدة اختارت هذا القطر العربي لترأس لجنة الأمم المتحدة للإحصاء. فعندما تنظر في مسقط على جدول إحصائي، يمكنك أن تثق بمصداقيته، وهو شيء نادر في دنيا الشرق الأوسط.

لاحظ المسؤولون هناك تصاعد الخط البياني لضحايا السيارات، فأسسوا وكالة وطنية للسلامة. ولكن، ما الذي يستطيع أن يفعله وكلاؤها إذا كان وكلاء آخرون للدولة ينشرون أرقاما أخرى عن الطرق السريعة الجديدة التي تم افتتاحها هناك في الأيام الأخيرة وكل الأيام؟

أصبحت حوادث الطرق مشكلة عالمية، بل غدت ذريعة لتبرير أي مكروه. تسمعهم يقولون: ما الداعي للقلق إذا قتل ثلاثة أطفال في تفجير إرهابي؟ أو قتلت فتاة غسلا للعار وعندنا في شارع الرشيد يموت كل أسبوع عشرون شخصا دهسا بالسيارات؟ المعتاد أن نلقي باللوم على سائقي السيارات. ولكن في رأيي، ينبغي إلقاء اللوم، لا على السائق ولا على السيارات، وإنما على الطرق السريعة. هي التي تحفز السائق على السير بسرعة، تصعب السيطرة عليها. الطرق السريعة تشكل عدوانا على الأسرة البشرية. علينا أن نتذكر من ابتدعها أول مرة.. إنه هتلر. هو الذي شق هذه الأوتوبونات الرهيبة، لتمكين جيوشه من الزحف والانتقال السريع لضرب الشعوب الآمنة. والآن تولى المسؤولية أرباب الصناعة والتجارة. يريد حمد أن يصل ببضاعته قبل حميد بساعتين، وكأن الساعتين هما كل ما يعني الواحد منا.

أصبح لهذا الهوس بالسرعة والطرق السريعة أضرار بليغة على الحياة الريفية. شق الطرق يعني تمزيق وحدة المنظر الطبيعي وجماله. يسبب هجرة القرويين إلى المدينة، ويقضي على قراهم بالموت التدريجي. هذا ما حدث في الأندلس الآن، فكل تلك القرى العربية التاريخية أخذت تفقد زبائنها وسياحها والمارين بها، وتموت. ما الذي يجنيه السائح إذا وصل صلالة بسرعة إذا فات عليه أن يرى كل هذه القرى والقلاع والمساجد والأماكن التاريخية الممتدة على طول الطرق القديمة؟

حرصت عمان على تزيين الطرق بالأزهار الجميلة. تتزاحم الورود بصورة خاصة عند الدوارات ومفترقات الطرق، حيث يقتضي على السائق أن يتيقظ ويحسب مساره. كيف يقوم بذلك وكل هذه الأزهار تستأثر بناظريه؟

شعرت بكل هذا في أسفاري المتكررة إلى كورنويل في بريطانيا. فقبل مد الطريق السريع، كنا نتنكب الطرق القديمة، فنتوقف عند كل قرية، نشرب قهوتها ونعاين فتيانها وحسانها ونتبضع من سلعها التقليدية، قبل أن نستأنف السير للقرية التالية. نخرج صباحا فلا نصل كورنويل إلا عند الغروب. ولكن متعة السير أروع من الوصول.