الدين في مواجهة حرية الرأي

TT

نحن في خضم معارك تدور في أفلاك مختلفة، فيها اشتباكات بين أتباع الأديان المختلفة، وأخرى تدور داخل الدين الواحد، وتنزل في تفاصيل نزاعها إلى داخل الطائفة، حتى تستقر كخلافات أفراد العائلة الواحدة. ورغم أنها مجرد علة في السلوك فمع هذا لا يوجد حل نهائي. ورغم كثرة المؤتمرات والاقتراحات فلن تسن ضدها قوانين حاسمة، وقد بقي وقت طويل حتى يصل الجميع إلى تفاهم أو يقبلوا بالهزيمة الجماعية، ويسكت كل طرف على ما يسمعه.

قبل ثلاثين عاما اعترض الإيرانيون، الذين كانوا في عز مجدهم الثوري الأصولي الإسلامي، على رواية سلمان رشدي مفتتحين بذلك صدام الثقافات. حينها كان الجميع في أوروبا، ومن بينهم الروائي والناشر والقارئ، معتادين على حرية التعبير في ساحتهم الثقافية، بما في ذلك ضد ديانتهم المسيحية. ولا يملك المعترضون سوى جمع تظاهرة تنتهي عند باب المسرح أو دار النشر، أو يسطرون مئات الرسائل احتجاجا. ومن لم تعجبه الرواية فعليه ألا يشتريها ومن حقه أن يحرض الآخرين على مقاطعتها.

لكن في العالم الإسلامي التجربة والتاريخ مختلفان تماما. فأوروبا مرت بأكثر من ثلاثة قرون من الصراع الفكري آثاره تليسكوب غاليليو وتفاحة داروين وقبل ذلك موقف مارتن لوثر ضد ألوهية الكنيسة الذي رسمت نتائجه اليوم من تقديس للحريات، وفرض مبدأ التعايش بين أصحاب الأفكار، وانتهى المجتمع إلى تحديد العلاقة وسلوكياتها. صار أقصى ما يمكن الرد على الفاعل هو بمثل فعله، إصدار كتب ومقالات تفند وتطعن في المجدفين. المسلمون هم خارج الجغرافيا الغربية وتاريخها، لم يصلوا بعد إلى الصفحة الأولى، لهذا يبدو سلوكهم للغربيين مستنكرا وسلوك الغربيين عند المسلمين فظا ومروعا. وبسبب ذلك يحتدم النزاع اليوم بين التاريخين عبر لجان في الأمم المتحدة، وجدل في مؤتمرات مفتوحة حول حدود الحريات.

وكما ذكرت في البداية، فإن إشكالات التعبير والنقد والحريات ليست بين أمتين فقط، واحدة حسمت أمرها منذ مارتن لوثر ضد الكنيسة وأخرى متمسكة بقيمها، بل الاشتباك على كل المستويات. فالمسيحيون يعتبرون رؤية المسلمين للمسيح فيها تجديف مرفوض، واليهود أيضا يعتبرون التهكم والتهجم عليهم في نصوص الإسلام يجب وقفه، والمسلمون يعتبرون السخرية المستمرة من دينهم إهانة، لكن لو أوقفت هذه الاختلافات لما كان في العالم إلا دين مشترك. وتتكرر الإشكالية بين أتباع الدين الواحد مثل حال التراشق بين السنة والشيعة. ولو أن الشيعة قبلوا برواية السنة للتاريخ عن صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام لما صاروا شيعة، ولو أن السنة اعتبروا عليا كرم الله وجهه أحق بالخلافة وما تبعها من التزامات لأهل البيت لما أصبحوا سنة، ولو أن أتباع تنظيم القاعدة تخلوا عن مبدأ الجهاد دون إذن ولي الأمر، ما صاروا «قاعدة» ولا سموا «إرهابيين» من بقية المسلمين، وهكذا تهبط حلزونيا سلسلة الاختلاف وتفاعلاتها إلى داخل البيت الواحد، حيث نجده محتدما حول نقاب المرأة وحجابها، وحدود النهي عن المنكر، وبسببها يتراشق البعض التكفير ويستوجبون القتل ويحلون دماء الغير. هذه صورة عامة لمستويات التنازع بين الفرقاء الذين يعجزون عن رسم الحدود بينهم والتعايش الذي لا يعني الاعتراف أو الرضا، وبالتالي المشكلة أكبر من أن تحسمها الأمم المتحدة وأعمق من أن تنتهي بدحر جماعات مسلحة أو متطرفة هنا أو هناك، بل هي مشكلة فكرية عريضة.

[email protected]