هل نمشي إلى الخلف؟

TT

هذه فكرة ليست مكتملة، لكنها جديرة بالتأمل والمناقشة. أساس الفكرة هو أن التخلف، لا التقدم، أفضل لحياتنا السياسية، وربما الاجتماعية. أتحدث هنا عن تجربة أربعين عاما، كنت شاهدا عليها، بين حياة وسفر ودراسة، وملاحظات شخصية. وأبدأ بملاحظة مفادها أن مؤسسات الدولة الحديثة التي ولدت في أوروبا غير قابلة للنمو في بلداننا، مثلها في ذلك مثل نقل الأعضاء من جسد إلى جسد، أي أن تنقل كلية أو كبد لمريض، فيلفظها الجسد لأنها جسم غريب، حتى لو كان ثمن هذا الطرد للجسم الغريب هو وفاة المريض.

الدولة العربية الحديثة اليوم تتراجع عن الحداثة السياسية داخليا وخارجيا، لتتحول إلى قبيلة أو طائفة من حيث السلوك السياسي، قد نسمي هذا السلوك مجازا سلوك دول، لكنه في الحقيقية وإذا ما دققنا النظر فيه نجده سلوك طوائف وقبائل، قبل كل شيء. والهدف هنا ليس إسقاط منظور قيمي على هذا السلوك من حيث كونه أحسن أم أسوأ من سلوك الدولة في أوروبا، ولكن الهدف هو إثارة أسئلة حول ملاحظات تبدو وكأنها ومن كثرة ما شاهدناها لا تلفت أنظارنا.

بداية، لفت نظري في أحداث الأسابيع الفائتة الحديث المستمر عن زيارة زعيم طائفة الدروز اللبنانية إلى سورية، وكذلك زيارة السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله إلى سورية أيضا، وكذلك زيارة العماد ميشال عون. ومن دون التقليل من قيمة أي من هذه الزعامات، أو من معاني الزيارة، فإن اللافت بالنسبة لي كأستاذ للعلوم السياسية هو أننا أمام حالة علاقات لا يمكن تسميتها بالدولية كما تعارفنا على التسمية، ولكن علاقات بين دولة وبين زعامات طائفية أو قبلية، بين دولة وطائفة وبين دولة وقبيلة، بينما تختفي الدولة اللبنانية؛ وإن وجدت فهي واحدة بين تلك الطوائف وليست إطارا جامعا لها. لذا كانت نبتة الدولة الحديثة قد فشلت في أن تنمو في لبنان، فما بالك بالدول العربية الأخرى التي نظن أن الحداثة قد دبت فيها؟

الزعيم الليبي معمر القذافي أعلن طواعية وعلى لسانه وليس تقولا عليه، أنه لا يقود دولة، بل هو ملك ملوك أفريقيا التقليديين، أي شيوخ القبائل والعشائر الأفريقية، وأنه يقود جماهيرية لا دولة. ومعظم من يزورونه من أفريقيا هم من قيادات القبائل لا رؤساء الدول، وبنى كثيرا من علاقاته مع الحركات لا مع الدول.. مع الجيش الأيرلندي، ومع قادة الهنود الحمر في أميركا، وقادة التمرد في معظم بلدان أفريقيا، إلخ.. إلخ.. وهنا لست بصدد التقليل من هذا النوع من العلاقات ما تحت الدولية، ولست بصدد إصدار حكم قيمي على هذا السلوك، هل هو جيد أم غير ذلك؟ ولكنني أقول إن لدينا في العالم العربي ميلا فطريا لتعاطي السياسية على المستويات غير الرسمية، أو في إطار ما يسمى في علم السياسة بـ«الأطر غير الرسمية للسياسة»، هذا السلوك هو مجرد مؤشر على أننا نتراجع إلى الخلف، وأن السياسة عندنا غير رسمية في المقام الأول. إذن، لماذا نستثمر في بناء مؤسسات الدولة الحديثة ونحن نعرف أنه لا لزوم لها؟

أما إذا نظرنا إلى بلدان الخليج العربي فنجد كثيرا من مجالس الشورى والمجالس النيابية، ولكن الأساس في السلوك السياسي، أو في قضاء الحاجات السياسية هو المجلس الخاص أو الديوانية، في حالة الكويت مثلا، حيث يكون النقاش أكثر جدية مما هو عليه في مجلس الأمة، وأن كثيرا من المواطنين في الخليج يذهبون إلى مجالس أمراء المناطق لقضاء مصالحهم، وتبقى المؤسسات الرسمية هي مجرد أدوات تنفيذية في الصباح لما حدث في مجالس المساء. كما أن شرعية مجلس الأمير والتواصل السياسي فيه أعلى بكثير من التواصل السياسي من خلال الإعلام أو من خلال المؤسسات الرسمية. وهذا ليس بعيب، ففي المجتمعات التقليدية يكون أساس التواصل ومصداقيته هو التواصل وجها لوجه، حيث يقرأ الفرد تعبيرات الوجه ولغة الجسد، للتأكد من صدقية القول والفعل. وأن تجديد الشرعية غالبا ما يحدث في هذه المجالس الأهلية، بينما تتآكل الشرعية في المؤسسات الرسمية.

أما إذا انتقلنا إلى مصر فسنلاحظ شيئا مختلفا، ولكن جوهر الطرح القائل بأن السياسية عندنا تحدث في المجال الأهلي والخاص وليس في مؤسسات الدولة الحديثة، يبقى طرحا وجيها ومناسبا. فمثلا في مصر وقبل ثورة عام 1952 كانت هناك أحزاب سياسية لها جمهور ومؤيدون، كحزب الوفد الذي ارتبط اسمه بأحد قادة الأمة العظام وهو سعد زغلول، وحزب الأحرار، والحزب الوطني الذي ارتبط اسمه باسم الزعيم مصطفى كامل، كلها كانت أحزاب لها مؤيدون ومناصرون. أما اليوم، فحزب الوفد لا يتعدى كونه صحيفة في شقة وسط القاهرة ونائبا أو نائبين في البرلمان. أما الأحرار، فهو صحيفة في شقة تحت الكوبري. والحزب الوطني هو حزب من يحكم، أيّا من كان في الحكم. النقطة الأساسية هي أن شرعية المؤسسات الحديثة كالأحزاب والمؤسسات الوطنية في طريقها إلى التعرية والتآكل، لتحل محلها الشرعيات الأهلية غير الرسمية. وكما أن اقتصاد مصر مؤلف من اقتصاد تحت الأرض ذي حجم أكبر من الاقتصاد الموجود فوق الأرض، فلا غرو أن تكون السياسية الأهلية أيضا أكبر حجما من السياسة الرسمية. أي إن الاقتصاد الموازي والسوق السوداء في الاقتصاد، يقابله تعاطي السياسة خارج الأطر الرسمية في السوق السوداء أيضا.

وحتى على مستوى العلاقات الخارجية وجدنا أن مصر أيضا، تراودها فكرة التعاطي مع الحركات من خلال تعاملها مع ملف المصالحة بين فتح وحماس، فنجد قادة الأجهزة المصرية يلتقون محمود الزهار وخالد مشعل، وينقل التلفزيون الرسمي هذه اللقاءات وكأنها لقاءات مع قادة دول.

والسؤال هنا: هل فشلت شتلة الدولة الحديثة في أن تنمو في تربة العالم العربي؟

هذا إن كان على مستوى الدولة؛ أما على مستوى الدين فنجد اليوم أن الفتوى خارج الأطر الشرعية هي الأكثر رواجا، والأكثر مصداقية لدى جمهرة عريضة من أهالي البلاد، كما أن وعاظ التلفزيونات الخاصة اليوم أكثر أهمية من مفتي الديار ومن شيخ الأزهر وغيرهما من أصحاب المناصب الدينية الرسمية. فهل حياة العرب غير قادرة على قبول المؤسسات الرسمية في السياسة وبناء الدولة، أو إن المؤسسات الرسمية تشبه إلى حد كبير عملية نقل الأعضاء التي يرفضها الجسم على أنها جسم غريب لا بد من التخلص منه حتى تعود الأمور إلى طبيعتها، حتى لو أدى ذلك إلى الوفاة؟ ظني أن الجسد السياسي العربي طارد لكل ما هو حديث من حيث المؤسسات. لذا، لا بد من التفكير في تطوير المؤسسات غير الرسمية، بدلا من الاستثمار في نقل أعضاء وبرلمانات ومجالس شورى نعرف أن الجسد السياسي العربي سيلفظها.

ربما منطق المشي إلى الوراء هو الذي أقنعنا أن الماضي كان أفضل، وهو المنطق ذاته الذي جعل الناس يلتفون حول كل القوى الداعية إلى العودة إلى الوراء، كالحركات الإسلامية التي تريد أن تعود إلى دولة الخلافة، أو الناصريين الذين يريدون العودة إلى دولة عبد الناصر.. إلخ. أو أن ما كان لدينا من فلسطين عام 1948 أكبر بكثير مما لدينا اليوم.

السؤال هنا هو: هل نقبل بالعودة إلى الوراء كمنطق يمكن البناء عليه، أم نعيد النظر في ذلك الوراء لنزيل عن أعيننا الغشاوة، ونزيل عن هذا الوراء وهذا الماضي هالة الرومانسية التي تغلفه، فنعيد قراءته وتركيبه؟ شخصيا، أجد نفسي منحازا مبدئيا، إلى أن الحداثة غير قابلة للنمو في مجتمعاتنا، أما إعادة النظر في الماضي فتلك قصة مثار جدل، لكنني اليوم مقتنع بأن طريقنا هو السير بثبات إلى الخلف، لأن ذلك أفضل جدا بالنسبة لنا. أعرف أن هذه رؤية قاتمة، لكن الهدف منها فتح حوار حول مستقبل الدولة في منطقتنا، أو الإجابة عن سؤال: هل نحن نتقدم أم نتأخر؟ وهل التأخر في صالحنا؟ وهل من الأفضل فعلا أن نسير إلى الخلف؟ أم إن هناك خيارا ثالثا؟ وهو أن نقف ثابتين في أماكننا من دون حركة، كما يقول المثل المصري: «تحرك ساكن تبلى بيه».