جامعة الملك سعود.. بين وادي حنيفة ووادي التقنية

TT

وادي حنيفة الذي يمر مرور الكريم وسط منطقة الرياض، تفوح منه رائحة التاريخ الغنية، ويستشعر الواقف عند أحد روافده أجواء أهله الأوائل الذين سكنوه، منجذبين للتربة الخصبة لضفافه، وتوفر المورد المائي، فسكنوه واستزرعوا النخيل والثمار، فاكتسب الوادي موقعا جغرافياً هاماً للمرتحلين من جنوب الجزيرة العربية عبرالمحيط الهندي واليمن، حتى الهلال الخصيب والبحر المتوسط شمالاً، ومن الحجاز غربا إلى البحرين شرقاً.

سكنه وعمره بنو حنيفة، وهم من أعظم القبائل العربية، وأكثرها قوة ومنعة، متربعين على خيراته، فتناسلوا على طول الوادي وعرضه فاشتدت شوكتهم، وذاع صيتهم.

ومما قيل في بسالتهم قول الفرزدق:

لعمري! لقد سلّت حنيفةٌ سلّةً

سيوفاً أبت يوم الوغى أن تُعيّرا

ومن وفرة حرثه، وغنى خيراته، كان وادي حنيفة يزوّد بلاد الجزيرة العربية بالمؤن وخيرات الأرض، ومنها مكة المكرمة، حتى أن الصحابي الجليل ثمامة بن أثال، أحد شيوخ بني حنيفة، حينما أعلن إسلامه وأنكرت قريش عليه ذلك، أمعن في إغاظتهم ففرض حصاراً اقتصادياً عليهم بأن أمر قومه بقطع الإمدادات الغذائية عن قريش، وقال لهم متوعداً: (والله لا تأتيكم حبة حنطة حتى يأذن فيها محمد)، فكتبت قريش، بعد أن ضربها الجوع، إلى النبي الكريم تسأله بأرحامهم أن يكف عنهم ثمامة، فأرسل رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة بذلك، فأمر قومه بإعادة التصدير.

وظل التاريخ يعطي لهذا الوادي قيمة مضافة، ليس فقط لأهمية البلدات التي نشأت في الوادي في التاريخ الحديث كمدينة (الدرعية) عاصمة الدولة السعودية الأولى، والتي تحتضن الجامعة السعودية الأم؛ جامعة الملك سعود، بل وحتى هذا اليوم حيث تحول الوادي إلى موقع سياحي بعد أن تم تأهيله بيئياً ليصبح مزاراً للترويح، والاستمتاع بأجواء البيئة النظيفة والكثير من الذكريات التي تثيرها رائحة عذوق النخل واسترجاع صوت السواقي.

وليس ببعيد عن الموقع الجغرافي ولا عن هذه الصورة الجميلة، يقع وادي الرياض للتقنية، الذي أصبح بقرار مجلس الوزراء السعودي شركة استثمارية مساهمة مملوكة لجامعة الملك سعود برأس مال 26 مليون دولار أمريكي. وكما أن لوادي حنيفة روافده المائية، فلوادي التقنية روافده المالية التي تصب فيه لتغني أرضه وتزيدها خصوبة، فتجذب الباحثين والمستثمرين لإحياء الوادي، وجعله موقعاً معرفياً يقصده المرتحلون من كل جهات العالم في سبيل العلم والمعرفة، بل ومُصدِّراً للعلوم.

ولا أظن أنني بالغت حينما قلت إن تبني مثل هذه الاستراتيجية الهامة من خلال إقرار تأسيس شركة وادي الرياض للتقنية لا يقل أهمية عن اتخاذ قرار الحرب والسلام، فهي تعني أننا أمام منعطف كبير في مستقبل البلد، قد لا يدركه البعيدون عن طبيعة التخصص الاقتصادي أو العلمي، ولكنه بلا شك قرار مفصلي في استراتيجية التنمية، وتغيير في ثقافة البحث العلمي، حيث ستتوقف قيمة البحث من الآن فصاعداً على دراسة مدى إمكانية تحويله إلى منتج تسويقي، أو تطبيقه في المجال الصناعي أو الصحي، وهو صميم عمل وادي الرياض للتقنية.

وكنت قد قرأت على صفحات جريدة «الشرق الأوسط» نقلاً عن صحيفة «واشنطن بوست» موضوعاً حول «براءات اختراع نتمنى أن تتحول إلى منتجات فعلية»، وذكر كاتب الموضوع بعض المنتجات التي لا تزال على الرفوف كتصاميم، لم يتم تحويلها إلى منتج فعلي يمكن تسويقه وجعله متاحاً للاستخدام.

وهذا موضوع كبير، لأن الحقيقة أن المشكلة في تأخر تقدمنا التقني في الدول النامية ليس افتقارنا للتفكير العلمي والقدرة على التصنيع والتصميم والابتكار، بل الغياب شبه الكامل لجهة تتبنى هذه الأفكار وتحولها إلى منتج نهائي، وحتى الدعم الذي قد يجده بعض المحظوظين غالباً مكبلاً بالبيروقراطية المقيتة لدرجة تدفع صاحب الاختراع إلى العزوف عن المشروع، والهرب من ضوضاء البطء، فيخسر المجتمع ليس فقط المنتج المأمول، بل وطموح صاحب الفكرة.

شركة وادي الرياض للتقنية في جامعة الملك سعود أول مشروع يعطي لمصطلح «اقتصاد المعرفة» هوية وطنية، لتوطين هذا الاقتصاد الذي يمثل 54% من اقتصاديات العالم، وهو نقلة نوعية لتحويل اقتصاد المملكة العربية السعودية من اقتصاد يعتمد على باطن الأرض إلى اقتصاد يتلاقى عنده الباطن والظاهر في دائرة واحدة يثري أحدهما الآخر، تمهيداً لمستقبل يقف فيه اقتصاد المعرفة ليكون المصدر الأول لاقتصاد المملكة.

والحقيقة ليست كل الجامعات لديها القدرة على تأسيس مثل هذه المشروعات التي تعتمد على مستوى الجامعة البحثي، حيث أن الجامعة التي تفتقر إلى منظومة البحث العلمي لا تملك أرضية لمثل هذا المشروع الذي يعتمد على تحويل الفكرة العلمية إلى مال. والفكرة العلمية كذلك ليست أحادية الجانب، بل منسجمة ومندمجة ومتكاملة مع أفكار أفراد ينتمون لنفس الحقل، تعزيزاً لقيمتها وقابليتها للتطبيق العملي الأمثل، مما يعني ضرورة امتلاك الجامعة لشبكة علاقات مع جامعات ومراكز بحثية حول العالم لتبادل الرؤى والبادرات البحثية.

وأخيراً، فإن تأسيس شركة وادي الرياض للتقنية في جامعة الملك سعود وضع معياراً جديداً لوزن الجامعات، فالجامعة التي لا تملك المقدرة على تحقيق هذا المعيار يجب أن تعيد ترتيب أوراقها، وتنظر لنفسها بمنظار مختلف، حتى لا تضحى عبئاً على الدولة والمجتمع.

* أكاديمية سعودية ـ جامعة الملك سعود

[email protected]