غازي القصيبي.. والمؤمن الصادق

TT

من حسن الحظ أنني انتهيت من قراءة كتاب ترجمه المثقف والسياسي السعودي الشهير غازي القصيبي، شفاه الله ورده سالما غانما، يبحث أسباب التطرف، في الوقت الذي انفض سامر المؤتمرين في المدينة المنورة للبحث في ذات المشكلة تحت إشراف جامعة من جامعات التعليم الديني، الجامعة الإسلامية.

المؤتمر كان مادة لأخبار الصحف وتقاريرها، بمشاركيه، وشيوخه، وعناوين الندوات والمحاضرات، وطبيعة النقاشات والكواليس، وحتى الاشتباكات النقدية بين نجوم المحاضرين وصقور الحاضرين.

كثير من البحوث قدمت، ويشكر أصحابها على جهودهم، لكن حسبما قرأنا في الصحف، لم أطلع على فتح نقدي أو تحليل يتجاوز ما قيل خلال السنوات القليلة الماضية.

فكرة عقد المؤتمر في حد ذاتها فكرة رائعة، وكذلك تخصيص عدة أيام للبحث والنقاش، كما يجب الإشادة برحابة صدر مدير الجامعة د. محمد العقلا، وبحرية الصحافة في تناول أحداث المؤتمر، أما التوصيات التي صدرت عن هذا المؤتمر، فهي توصيات متوقعة في ظل مؤتمر يحضره، رجال دين، في الغالب، في ظل جامعة متخصصة في التعليم الديني، ولذلك كانت التوصيات مناسبة لهذه الأجواء، وغلب عليها الطابع التجريدي، و«الينبغيات»، ينبغي كذا وكذا، ولا ينبغي كذا وكذا، لكن لفت انتباهي نكهة جديدة في التوصيات، حيث ورد فيها:

«يحث المؤتمر قيادات وحكومات الدول الإسلامية على ما يلي:

* دعم هيئات وجمعيات حقوق الإنسان.

* دعم المشاريع التنموية والحد من البطالة ومعالجة مشكلات العشوائيات السكنية والقضاء على التهميش الاجتماعي للشباب.

* الحفاظ على الطبقة الوسطى من التآكل والتهميش».

هذه مصطلحات وأفكار جديدة في الخطاب الديني المناوئ لـ«القاعدة»، يجب الإشادة بها والتوقف عندها.

وانطلاقا من تركيز هذه التوصيات على الجانب التنموي والحقوقي والإنساني، أعود إلى كتاب غازي القصيبي، قلت إنه كتاب غازي، رغم أنه ترجمه، أو «نقله للعربية» كما وضع في طرة الكتاب، لأنه قدمه للقارئ العربي بطريقة الاحتضان والتبني، والحق أنه كتاب لذيذ وعميق ومدهش، فيه تفكير «خارج الصندوق»، الكتاب طبع هذه السنة (2010)، اسمه «المؤمن الصادق» أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية (the true believer) تأليف: ايريك هوفر Eric Hoffer نشر مشترك بين دار كلمة المتفرعة من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، ودار العبيكان السعودية.

المؤلف ايريك هوفر (1902 - 1983)، كما جاء في تعريفه في الكتاب، كان عصاميا علم نفسه بنفسه، عمل مدة في المطاعم وعاملا مؤقتا في المزارع، ومنقبا عن الذهب، وبعد الهجوم على بيرل هاربور عمل عامل شحن وتفريغ في سان فرانسيسكو مدة ربع قرن، كتب أكثر من عشرة كتب، منها هذا الكتاب، الذي، كما تقول صحيفة «وول ستريت جورنال» ألفه بينما هو يعمل في ميناء سان فرانسيسكو في أربعينات القرن الماضي، حيث شغل وقته في تأليف أبحاثه الفلسفية، وهذا الكتاب «المؤمن الصادق» هو أول كتبه وأهمها، وقد قفز إلى قائمة أفضل الكتب مبيعا، عندما استشهد به الرئيس ايزنهاور في إحدى ندواته التلفزيونية.

المترجم غازي القصيبي احتفى بالكتاب، وحق له ذلك، وذكر في مقدمته سبب اهتمامه بالكتاب، وهدفه من هذه الترجمة، فيشير إلى أنه ترجم هذا الكتاب رغم أنه صدر في منتصف القرن الماضي ورغم أنه لم يحظَ بقدر كبير من الانتشار لإنه كما يقول وجد: «فيه جوابا شافيا عن سؤال شغلني منذ أن بدأت ظاهرة الإرهاب تشغل العالم، وهو: لماذا يصبح الإرهابي إرهابيا؟».

ويتضح مدى اقتناع القصيبي بنتائج وتحليل هوفر من خلال نفيه وجود كتابات تضيء عقل الإرهابي من الداخل، وتتيح لنا فرصة التعرف على هذا العالم العجيب المخيف، يقول: «رجعت إلى عدد من المصادر وبحثت الأمر مع عدد من الخبراء واتضح لي أنه على الرغم من وجود كم هائل من المعلومات عن الإرهاب، تنظيماته وقادته وأساليبه وأدبياته وتمويله». كل هذا لم يقدم للقصيبي إضاءة لفهم عقل الإرهابي. ويشير إلى أنه وجد ضالته في كتاب هوفر (دله عليه صديقه علي بن طلال الجهني) وأنه رغم أن الكتاب لم يتكلم عن الإرهاب كما يفهم ويتحدث عنه الآن، فإنه قدم جوابا شافيا، حيث إن الكتاب يتحدث عن «التطرف» والإرهاب وليد التطرف.

يختم القصيبي مقدمته الوجيزة بطلبين، الأول يقع على عاتق الباحثين الذين يجب أن يعرضوا تحليل المؤلف على واقع الإرهاب المعاصر، وأن يتركوا الدراسات الميدانية الدقيقة، تصدق أو تكذب هذا التحليل، ويضيف القصيبي جملة استدراكية هنا بين قوسين: «وفي رأيي أنها ستصدقه!». ثم يضع طلبا آخر، أهم وأعمق من الأول وربما لخص جوهر الحافز لدى المترجم في الاحتفاء بهذا الكتاب، يقول: «أما ثانيهما، وهو أهم وأخطر، فيقع على عاتق الدول العربية التي يجب أن تمتلئ بالفرص وتزدهر بالأنشطة، وتبوح بمؤسسات المجتمع المدني النشطة، على نحو يقضي على الإحباط بين الشباب، أو على جزء كبير منه، بزوال الإحباط يزول التطرف، وبزوال التطرف ينتهي الإرهاب، هذا في - رأيي - هو الأسلوب الوحيد الناجع لمشكلة تقض مضاجع العالم».

هكذا يرى الخبير السعودي في ميدان الفكر والسياسة، ومع ملاحظة وجود تشابه بشكل ما بين خلاصة غازي و«بعض» توصيات مؤتمر المدينة، لجهة الالتفات إلى رفع روح التفاؤل لدى الشباب وإشراكهم في العملية التنموية، مع تأكيد غازي على فكرة تنشيط «المجتمع المدني» والبوح بها، إلا أنه يبقى هنا تسجيل ملاحظتين عابرتين على كلام الدكتور غازي القصيبي:

الأولى أن نفيه، رغم أن ذلك من حقه، لوجود دراسات وكتابات تضيء عقل الإرهاب وعقلية الإرهابي، فيه شيء من المصادرة والإطلاق، يكفي فقط التذكير بكتاب كان له صدى يرن حول قصة «القاعدة»، و«القاعدة» دينمو الإرهاب وأكبر نقطة جذب فكري وعملي ونفسي له، أعني كتاب «البروج المشيدة» الذي ألفه أميركي أيضا، هو صحافي التحقيقات الشهير لورنس رايت، وقد قرأت الكتاب، ولا أقول إنني وجدت كل الإجابات فيه، لكنني وجدت إضاءات واستقصاءات متعمقة حول شخصية المتطرف ممثلة في أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وسيد قطب، وقد قال عنه أحد النقاد، في صحيفة «وول ستريت جورنال» - وهي نفس الصحيفة التي وضع تعليقها على الغلاف الأخير من كتاب ايريك هوفر - قال عن كتاب لورنس رايت: «دراسة متعمقة.. مصاغة بدقة لا تشوبها شائبة».

الثانية، أعتقد أن الدكتور غازي، بذكائه وخبرته، أراد لنا من هذا الكتاب الذي ترجمه بأسلوبه المميز، ونكهته الخاصة، ووشاه بحواش قيمة أضافت حضور غازي الشخصي كصاحب رأي واعتراض، أراد لنا أن نفهم شيئا أبعد من الغرق في حالة الإرهاب والإرهابي، أراد لنا أن نبحث، بشكل محايد ووصفي، لا أخلاقي ووعظي، شخصية المتطرف ودوافعه للانخراط في العمل الثوري، أيا يكن محتوى التطرف، دينيا أو دنيويا، ماركسيا أو قوميا أو أصوليا دينيا، حتى نخرج من إطار الوعظ إلى حالة الفهم، فالفهم هو الشرط الأساسي للعلاج، افهم المرض كما هو لا كما تريده أن يكون، ثم عالجه، أو حتى عالج نفسك وذاتك، هذا هو الدرس من وراء نقل الكتاب للعربية.

أما عن الكتاب نفسه فالشرح يطول، وقد قضيت في صفحاته الـ316 لحظات ممتعة، إنه كتاب مدهش وطريف في كيفية تحليله لشخصية الجاهز للانضمام إلى العمل الجماعي الثوري، وفيه تحليلات تخالف المألوف لدينا حول الخزان الطبيعي من البشر المستعدين للعمل الثوري الجماهيري.

المقام لا يتسع للشرح أكثر، لكن أكتفي بنموذج واحد حول تحليل عامل الفقر وطبقة الفقراء وهل هم، بمجرد كونهم فقراء، جاهزون للغضب الثوري الجماعي؟

المؤلف لا يجيب بشكل تقليدي متوقع، لقد تغلغل ايريك هوفر في أزقة الفقر وخرائطه وألوانه وجعل «محدثي الفقر» هم رأس الحربة الداعمة لأي حركة جماهيرية، ومثلهم من تحسن وضعهم الاقتصادي قليلا ونقلهم من مستوى الإعدام والإدقاع إلى وضعية أفضل توفر لهم هامشا ما للتفكير والحركة، أي إن الفقراء ليسوا أنصارا للثورات كلهم، بل محدثي الفقر ومن تحسن وضعهم قليلا فقط! - وليس معنى هذا بالضرورة أن كل أفراد هذه الطبقة سينخرطون بشكل أوتوماتيكي في أي عمل ثوري - أما المعدمون والمدقعون فهم أبعد عن تأييد الحركات الثورية، بل إنهم، كما صنفهم المؤلف، يحسبون على فئة المحافظين بسبب خوفهم الدائم من المستقبل!

وهكذا نجد الكثير من التحليلات المختلفة والجديدة.

لقد قدم غازي خدمة جليلة للقارئ العربي، تبقى بعض التحفظات على آراء المؤلف، لكن لا يسع المقام هنا لذكرها ربما في مقام آخر.

أخيرا: الكتاب ليس عن الإرهاب ولا عن التطرف فقط، إنه، رغم قدم تأليفه، بحث في أزمة العلاقات بين الإصلاح والدين والسياسة، إنه تحليل المؤلف، وشهادة المترجم على هذه المرحلة، عبر جسر المؤلف.

[email protected]