أدت المنافسة على السياحة إلى الابداع والتخصص في ميادين مختلفة. هناك السياحة الدينية، الذهاب للأماكن المقدسة. نجدها في العراق، حيث يتدفق الناس نحو العتبات المقدسة، يقضون بضعة أسابيع يبكون ويلطمون ويسلخون ظهورهم بالسلاسل ويعودون جذلين وممتنين على ما أنفقوه من توفيرات حياتهم. منها أيضا السياحة المماتية، تتمثل فيما يوصي به الموتى بإنفاق كل ما جمعوه لنقل جثامينهم ودفنها قرب مقام الإمام علي في النجف. يأتي في هذا السياق أيضا العراقيون الماركسيون الذين يوصون بدفنهم قرب مرقد إمامهم كارل ماركس في لندن لينهضوا في يوم الحشر ويسيروا وراءه بالراية الحمراء وشعار: «يا أموات العالم اتحدوا!». كان منهم بلند الحيدري، وزاهد محمد، وسواهما من الشعراء والمفكرين الماركسيين.
منها أيضا السياحة النقدية، تخصص فيها أصحاب الأموال الحرام، الحرامية والمزورون والمتهربون من الضريبة. يذهبون لبلدان ذات بنوك جميلة وفتيات أجمل تقبل أي مال حرام. يقيمون في فنادقها الباهظة لينفقوا شيئا مما سرقوه ويودعوا ما بقي في بنوكها الجميلة وصدور غانياتها.
توله الأوروبيون بسياحة الإسات الثلاثة sun, sand, sex (الشمس والرمل والجنس). تخصصت فيها مناطق البحر المتوسط، ولا سيما الجزر اليونانية، حيث أنتجت أفظع جرائم الاغتصاب والإباحية والقتل.
أشاحت سلطنة عمان عن كل ذلك وتخصصت فيما سمي بالسياحة المحترمة، أو السياحة النهارية، المتاحف والقلاع التاريخية والرحلات الاستكشافية والشواطئ الدافئة بعيدا عن السياحة الليلية، كازينوهات القمار و«النايت كلاب» ومواخير السكر والعربدة. ذهبت إليها تحدوني فكرة الاستجمام من كل ضغوط الصحافة والكتابة. ولكنني وأنا أدور بين مدنها وشواطئها وهضباتها وجدت أن عمان تثير في النفس المزيد من التفكير، ولكنه كان تفكيرا سياحيا حملني على الاهتداء لنوع جديد من المتعة السياحية، رحت أسميه السياحة الفكرية. ففي نهاية الطريق المثير عبر سفوح الجبل الأخضر، وجدت في أسفل الوادي مجموعة من سبعة بيوت بدائية من الصخر يصعب النزول إليها أو الصعود منها، منعزلة كليا عن العالم. قال الدليل: هذه بيوت هجرها أصحابها للمدن. ولكن سرعان ما لاحظنا حركة فيها وامرأة تلاعب طفلها. كلا، لم يهجروها بعد. بقيت أراقب علامات حياتها وأفكر كيف تعيش هذه المجموعة الصغيرة من البشر؟ كيف يحصلون على لقمة العيش؟ هل يتبادلون الحب مثلنا؟ أين يجدون الماء ليتوضأوا. كم خطر لي أن أقضي أياما أو أشهرا معهم، أعايشهم وأراقب حياتهم.
عمان مليئة بما يوحي إلى التفكير؟ هذه الفهود العربية وهذه السلاحف الخضراء تغيب في البحر لأشهر، ثم تجدها تتزاحم على الشاطئ بألوانها الزاهية في موسم الإخصاب. حدثوني بأنك ترى هنا من الحيوان والنبات ما لا تراه في أي مكان آخر. كيف حصل ذلك؟ من جاء بها الى هنا؟ ما الذي يقوله داروين عن ذلك؟ عدت للفندق وكأنهم أدركوا أنك في عمان تجلس لتتأمل وتفكر، فأحاطوك بالهدوء العماني. من بين كل بازارات الشرق تتميز أسواقهم بالسكون. لا راديوات أو تلفزيونات تمزق الآذان ولا موسيقى بوب في المطعم أو مخانقات في الشارع. هنا يذهب الفكر في سياحة. العقل في إجازة.