دمشق ـ بيروت

TT

«شو بدي اقلك لقلك، الإصه (أي القصة) كبيرة»، أي أن القصة كبيرة لا يوجد كلام يكفيها، هكذا يقول أهل الشام، عندما لا يريدون أن يقولوا شيئا مهما. لا أدعي معرفة خاصة، لا بدمشق ولا ببيروت، ولكن العين الجديدة غالبا ما تكون لها ملاحظات جديدة، ليست في كل الأحوال ساذجة. استوقفني في زياراتي إلى دمشق وبيروت أن أهل دمشق يشاهدون القنوات الفضائية اللبنانية، وأن حضور بيروت الإعلامي والثقافي في دمشق ربما يفوق حضور دمشق السياسي في بيروت، وأن أهل الشام يعرفون نواب البرلمان اللبناني أكثر مما يعرفون نوابهم، وتلك قصة أخرى. في الوقت نفسه، فإن أهل لبنان مدمنون بما يشبه المرض على ما يدور في أروقة السياسة في دمشق. إن أميركا هي التي أعرفها جيدا، ولكثرة إقامتي بها غالبا ما أتخذ من عالمها أمثلة للتشبيهات والاستعارات، ذكرتني علاقة دمشق ببيروت بعلاقة واشنطن بنيويورك، حيث تكون واشنطن العاصمة السياسية أقرب إلى حالة دمشق، ونيويورك العاصمة المالية والثقافية والإعلامية أقرب إلى حالة بيروت في هذه العلاقة بين المدينتين، والمسافة بين بيروت ودمشق هي ساعتان بالسيارة كما أن المسافة بين نيويورك وواشنطن ساعة بالطائرة، والساعة ساعة، كل حسب عالمه وحداثته، ففي عالم السيارات في الشرق الأوسط تحسب المسافة بحركة السيارة، بينما في عالم ما بعد الحداثة وعالم الطيران في أميركا، تحسب المسافات بحركة الطائرات، وكذلك تحسب المصائب في العالمين، سيارات مفخخة، مقابل طائرات تستخدم كقنابل بشرية وصواريخ دمار.

أهل دمشق مغرمون بمسرحيات الرحابنة وأغاني فيروز ويستمعون إلى كل محطات بيروت الإذاعية والتلفزيونية، وهذا لا يعني أن دمشق لا تنتج ثقافة، فمن الشام سطع اثنان من أهم نجوم الشعر العربي الحديث هما أدونيس ونزار قباني، ولكن كليهما كان قد اتخذ من بيروت لا من دمشق مسكنا ومنطلقا وفضاء شعريا مفتوحا وحرا «شويّة». ورغم كل ما قلته هنا عن أهمية بيروت وتشبيهها بنيويورك فإن ظني أن أهل بيروت يرون عاصمتهم أهم بكثير من نيويورك وباريس، ومراعاة لذلك وحتى لا أثير غضب اللبنانيين أقول إن نيويورك تشبه بيروت وواشنطن تشبه دمشق. ولن أذهب بعيدا في المبالغة بغية الفكاهة، فأقول إن التشابه تام بين المدينتين، فلا هناك «نيويورك تايمز» في بيروت تحدد الأجندة الإعلامية والسياسية، ولا هناك قوة مالية لليهود تسيطر في بيروت كما تسيطر في نيويورك، ولكن يظل أهل بيروت مؤمنين بأن السياسة التي تقرر مصير بلادهم مقرها دمشق.

المسافة بين بيروت ودمشق هي مسافة كيلومترات قليلة أو «شلفة حجر» كما يقول أهل الشام، أو «فركة كعب» كما نقول في مصر. أي بالحسابات العسكرية، وحسابات العمق الاستراتيجي، أن من يسيطر على بيروت يهدد دمشق وأن من يسيطر على دمشق يهدد بيروت تهديدا مباشرا، بالمدفعية لا بالصواريخ أو الطائرات، وربما لهذا السبب ولهذا القرب الجغرافي يرى السوريون واللبنانيون أنهم دولة واحدة بشعبين، وبالتأكيد ليستا دولتين بشعب واحد، لأن لبنان به أكثر من زعامة مما يوحي بوجود أكثر من شعب وربما أكثر من دولة. قلت إنني جديد في فهمي لقصة دمشق - بيروت، ومع ذلك أجدني أتحرك بسلاسة بين البلدين، لا حدودا وإنما ثقافة ولغة، وهنا لا أقصد اللغة العربية الفصحى، ولكنني أتحدث عن لغة أهل الشام المحلية، فإذا ما زرت هذه البلاد لن تحتاج إلى أكثر من أربع أو خمس كلمات، كي تمر بين البلدين من دون إحساس بقصور في قاموسك اللغوي.. تحتاج إلى أن تعرف كلمة «شرّف»، أي تفضل، و«ع راسي»، أي أمرك على رأسي، أو تحت أمرك كما نقول في مصر، وهي عبارة تقال دوما ولا تعني شيئا، و«يسلموا» في نهاية كل حوار أو جدل حول شراء أو بيع، وهي النهاية الأضمن والأسلم. أما إذا سُئلت عن رأيك في أمر لا تعرفه أو لا تريد الخوض فيه، فما عليك إلا أن تقول «مْبيّن»، بتسكين الميم وتشديد الياء، أي أن الأمر واضح وغني عن التعليق عليه، «وشو بدي اقلك لقلك» الموضوع كبير، ومع ذلك أتمنى أنني كنت واضحا في ما قلت، فالأمر «مْبيّن».