القوقلة والقول والشوارب

TT

القوقلة ليست مشتقة من القول وإن شابهتها، بل هي كلمة عُرّبت منذ زمن قريب قد لا يتجاوز شهورا. سمعتها من طلبتي بالجامعة، وتعني البحث عنها في محرك البحث قوقل google، وأصبحت فعل أمر شائعا: «قوْقلها». وبذا تنضم إلى قائمة طويلة من كلمات الحاسوب، التي يجري تعريبها بسرعة ليس لها مثيل في تاريخ العربية، مثل «سيّفها = SAVE IT» و«فَرْوِدْها = FORWARD IT» و«دَلْوِتْها = DELETE IT».. إلخ.

يدور جدل برلماني كويتي هذه الأيام حول ضبط «أقوال» النواب.. الجدل تراكم بعد جلسة شهيرة، «كذّب فيها نواب شوارب بعضهم». فقَوْقَلْتُ الشوارب لأجد معنى قاموسيا لها، ولم أجد معناها بأبعاده في الثقافة العربية.

الشارب في العربية مشتق من شرب، ومنها الشراب التي جاءت منها الإنجليزية SYRUP، وارتبطت كلمة الشراب بالخمر في ثقافتنا، وهو كذلك في الفارسية. أما «الشراب» بالمصرية الدارجة فلعلها من «جراب»، ولا علاقة لها بالشرب، ولا بالتدخين من قريب ولا بعيد.

ارتبط التدخين بشربه مع أنه ليس سائلا، ولا أعرف لمَ نقول في الدارج «يشرب سجاير؟» كانت ترجمتها الحرفية بالإنجليزية تضحكنا طلابا drink cigarette!

حين كنت تلميذا صغيرا، كان الهمس بعبارة «فلان يشرب»، تعني أنه يدخّن وكان ذلك أمرا جللا، ونتحاشى مرافقة المدخن، لأنه يمكن أن يجلب علينا سمعة سيئة. تغيّرت المفاهيم، وأصبحت عبارة «فلان يشرب» تقال جهرا وتعني «يشرب الخمر». كان التدخين في الماضي يسمى «المخزي»، أما اليوم فإن المخزي بلغة «التقليديين» فتعني الخمر.

للشارب في ثقافتنا العربية الرجولية معان عميقة، فهو يرتبط بالشرف والوعد فيقول الرجل ممسكا بشاربه: «بهالشارب» أي إن شاربه بمثابة كفيله بتنفيذ وعده. أو قد يختزل الشارب الرجولة كلها حيث يتوعد الرجل: «.. أو هالشارب ما هو على رجّال».

«أنعل أبو هالشوارب» شتيمة كررها الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، ضد خصومه. ردد صدام العبارة مرات عدة أثناء تصفيات المناوئين له في حزبه، البعث العربي الاشتراكي، في الاجتماع الحزبي الشهير بعد إزاحة أحمد حسن البكر عام 1979، كان يطلب من الواحد منهم أن يقف ويردد شعار الحزب فيزجرهم صدام حسين بعد ذلك ويطردهم، غير آبه بتوسلاتهم، مرددا: «طلعوا أنعل أبو هالشوارب» (والمقصود ألعن). كما ارتبط الشارب بالمديح: «ونعم الشارب!». وحين ينعت الواحد بأنه من «طوال الشوارب»، فهذا يعني أنه من علية القوم ورجالاتها وفرسانها، حيث قال الشاعر:

شرّابة التمباك معهم سعة بال

واللي طويل شاربه يقصرونه

وطول الشوارب ذو علاقة بالمقامات، وحين تتلاشى المقامات تقول العرب: «تساوت الشوارب». وحف الشوارب أو تقصيرها له بعد ديني، بل ومرتبط بالكرامة، والمثل الشعبي يقول: «كل شارب وله مقص».

ما زال الكثير بيننا - وخصوصا في الجزيرة العربية - يعتبر حلق الشارب عيبا، فللشارب ارتباط ثقافي بالرجولة، بل ومؤشر على بداياتها فيقال: «فلان خطّ شاربه» كناية عن سن البلوغ. و«هرج يجمد على الشارب»، مثل يقال كناية عن الجدية. وهنا نرى علاقة تتردد بين الشارب والقول - الهرج. ومع أن الشارب ليس من أدوات النطق كاللسان والشفتين، وعلى الرغم من أنه شعر أخف كثافة من شعر الرأس أو اللحية، فإن جدية القول وصدقه ترتبط ارتباطا بشعر الشارب تحديدا.

ثمة علاقة بين الشارب والقول، أي بين الشعر والكلام، وبين الشَّعْر والشِّعْر، فالشِّعر قول، والقول كلام «يذهب في الهواء»، والشارب يمكن أن يقصه الرجل وينمو ثانية، والكلمة تخرج من فم الواحد منا ولا تعود أبدا، مثلها مثل شعرة شارب تم قصها.

الأكيد أنه لا علاقة البتة بين الشارب والقول و«القوقلة»!