تغيير المسار

TT

هذه الواقعة الحقيقية لا فضل لي فيها، وإنما أنقلها لكم كما هي مع بعض الشيء من الاختصار، وبعض الشيء من الإضافات بقصد التوضيح، ويقول صاحبها:

كنت أريد أن أكون طبيبا، لكنني اضطررت بعد قضاء السنة الأولى بمدرسة الطب أن أنقطع عن الدراسة، وأعمل لكسب القوت. وكان في نيتي أن أنقطع سنة، لكن السنة استطالت إلى سنتين فثلاث فخمس، وأخيرا انتهى بي المطاف إلى ألاسكا حيث اشتغلت سنة بعد أخرى ناقبا بأحد مناجم الذهب.

وذات ليلة عصفت ريح هوجاء عاتية، ورسا مركب شراعي حطمته العاصفة في الحوض عند أسفل الكوخ الذي أسكنه، ووقف ببابي رجلان كليلان أشعثان وطلبا المأوى، وكانت الكآبة تبدو عليهما كأنهما آخر من بقي في الأسر بغير فداء. ولكني أعددت لهما شيئا من الطعام، وهيأت لفراشهما مكانا على أرض الكوخ - إذ لم يكن لدي مكان سواه - فلما جلسنا عرفت أن أحدهما يدرس في «هارفارد»، والآخر أستاذ فلسفة في جامعة «ييل»، وكانا ينامان في قاربهما ومشغوفين بإجازتهما.

وفي اليوم التالي أريتهما المنجم، ثم عدنا للكوخ وأخذنا ندخن ونتجاذب أطراف الحديث بعد أن انتهينا من العشاء، وفجأة وإذا بأحدهم يقرع الباب، وعندما فتحته إذا برجل وجهه مغسول بالدماء يرتمي على الأرض، وعرفت منه أن كبسولتين من النحاس انفجرتا فأصيبت عيناه، وسمع أن في هذا المكان طبيبا، وأخذ يسير ويتخبط ويزحف على الثلوج قاطعا اثني عشر ميلا حتى وصل، واضطررت على مضض أن أخبره أنني لست طبيبا، فأربد وجهه من شدة الحسرة، ولكنني تذكرت أن في جعبة الأدوية التي أحملها بعض بلورات «الكوكايين» التي لو مزجتها بالماء خففت ألمه، وهذا ما فعلت، ثم أحضرت ملقطا وعقمته بالنار، وأخذت ألتقط من داخل عينيه قطع النحاس، ثم ضمدتهما، وجلس عندي ثلاثة أيام، وعندما أزلت الضمادات إذا به يرى كل شيء، والتفت لي وهو يكاد يبكي قائلا: لقد رددت لي بصري يا دكتور.

وفي اليوم التالي كان ضيوفي ثلاثتهم على أهبة الرحيل، ولقد رأيت الرجلين، بعد أن فرغا من شحن مركبهما بالمؤن لرحلتهما الطويلة إلى موطنهما يتحدثان، باهتمام ثم عادا إلى كوخي.

قال رجل ييل: «لقد كنا نقول عنك ما تكره يا صاحبي. ماذا بك يا هذا؟ ألم يبق لديك من قوة البأس إلا أن تقضي هنا البقية الباقية من حياتك تطرق الصخور؟ أم لست إلا أحد أولئك الخاسرين الذين خسروا أنفسهم فهم قانطون لا يبالون؟».

كانت كلمته تلك قد هزتني من الأعماق، فصحت فيهم قائلا: انتظروني. فما هي إلا ساعات حتى أخذت معي ما خف وزنه وثقلت أهميته بالنسبة لي، وذهبت معهم، ثم التحقت بالجامعة وتخرجت بتفوق بعد سنوات.

إن القدر هو الذي ساق لي هؤلاء الثلاثة ليدخل النور إلى عينيّ.

***

هذا هو ما رواه البروفسور الدكتور «فريدريك لوميس»، الذي أصبح من أشهر الأطباء في أميركا.

[email protected]