حرية التعبير وانحطاط الكلمة

TT

يدور جدل إعلامي ونيابي في الكويت منذ شهور حول حرية الرأي والكلمة والتعبير، والفاصل بينها وبين الانحطاط والسوقية. وصل الأمر إلى مطالبات نيابية وصحافية بإغلاق بعض المحطات الفضائية والصحف اليومية، وغصت المحاكم الكويتية بقضايا ضد كتاب وصحافيين من بينها قضايا عدة رفعها رئيس الوزراء بالكويت على كتاب وإعلاميين بتهم القذف والسب.

الناس خرجت بالآلاف في الشوارع في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي احتجاجا على شخصية جدلية تعرضت لفئات القبائل والتشكيك في ولائهم ووطنيتهم، وهاجم بلغة لا يختلف عليها منصفان بأنها «لغة انحطاط» بامتياز.

جدل ومعارك إعلامية طبيعية مع تزاحم الفضائيات والصحف اليومية، في الكويت أكثر من عشر فضائيات خاصة وخمس عشرة صحيفة يومية مطبوعة. وقد دفعت حمأة المنافسة الشديدة، والتسابق على استقطاب القراء والمشاهدين بعض وسائل الإعلام الكويتية إلى الخروج عن «المألوف» في القول. فثار الجدل حول خطوط حرية التعبير وتحديد حدودها التي لا يجوز تجاوزها. والحق أن هذا «الخروج عن المألوف» لم يكن حصرا على الإعلام، فهو متزامن مع خروج نيابي بمجلس الأمة الكويتي (البرلمان) عن تراث برلماني لم «يألف» لغة التراشق والشتيمة والسباب.

تساءل المتسائلون: ما هي لغة «المألوف» كي لا نخرج عنها؟ وما حدود التعبير التي يعني تجاوزها الدخول في المحظور من القول؟

يجمع المنصفون على تفشي لغة انحطاط لم يألفها الإعلام الكويتي، بل إن بعض من يكتب بلغة الانحطاط يشارك في الكتابة عن القيم والأخلاق الإعلامية، ويدين أحيانا لغة «الانحطاط»؛ «رمتني بدائها وانسلّت».

المدافعون عن الديمقراطية وحرية الكلمة، وجدوا أنفسهم حيارى حيال هذه الظاهرة الجديدة، فإن هم أدانوها، فقد تنازلوا عن مبدأ أصيل بحرية الكلمة والتعبير، وإن سكتوا عنها، فكأنما يشجعون انتشار الظاهرة على حساب لغة الحوار الديمقراطي، ويفسحون المجال لثقافة «انحطاط لغوي» باسم الحرية وتحت ذريعة حرية التعبير. لكنهم في النهاية يرفضون الرقابة وحجر الكلمة مهما «انحطت» ويقفون عند ما قاله الفنان الأميركي تومي سموذرز: «الرقابة الوحيدة الممكنة إعلاميا هي ضمان حق الناس بعدم الاستماع والقراءة».

هناك فريق في الكويت يكيل بمكيالين: إن كان الخروج عن «المألوف» يوافق هوى في نفسي، فهو الحرية الديمقراطية ولا يجوز إسكات صاحبها، وإن كان الكلام لخصومي ويخالف هواي فهو «عيب وخزي وعار وإثم كبير».

وطبعا هناك فريق يضيق بالحرية من أساسها ذرعا، فوجد في «الانحطاط» مناسبة للهجوم على الحرية والديمقراطية برمتها. فهي الويل الذي أتانا بهذه الظواهر «الدخيلة»، وهي البلاء الذي قاد لتفشي لغة الانحطاط في إعلامنا.

يكاد لا يخلو تفسير ظاهرة جديدة في عالمنا من دون البحث عن المؤامرة. والكويت ليست استثناء، حيث يفسر فريق «المؤامرة» ظهور ظاهرة الانحطاط اللغوي بأنها «أمر دُبّر بليل»، وبأنه مؤامرة للتهيئة لضرب الديمقراطية وتعليق الدستور وحل البرلمان. والمؤامرة كالتالي: باسم الحرية، اشتموا وسبّوا وصفوا خصومكم بأقذع الألفاظ والمقزّز من القول، وانحطوا بقولكم وأقلامكم. كرّهوا الناس في الديمقراطية، وادفعوهم دفعا للكفر بها وبحرية التعبير التي أتت بلغة الانحطاط التي تمارسها وجوه جديدة لا شأن لها بالإعلام، وأصبحوا ظواهر يشار لها بالبنان الإعلامي. كما يؤمن أهل المؤامرة إيمانا تاما بأن الانحطاط الإعلامي مسألة مدروسة ومدفوعة الأجر، وبأن مراكز قوى مهمة على مستويات عليا تقف وراءها.

لا علاقة للانحطاط بكلمة نحط، فالنحاط يعني السعال الشديد، وكلمة الانحطاط حديثة من جذر «حطط». مفارقة أن تكون الكلمة حديثة، وهي كالظاهرة في الحياة السياسية الكويتية، حديثة أيضا.

لا أؤمن بفكر المؤامرة، ولكني أنحاز هذه المرة للمؤامرة في تفسير «الانحطاط».