العودة التركية إلى البلقان.. هل ستكون سهلة؟

TT

الخروج التركي من البلقان عام 1913 كان مكلفا وموجعا بعدما توحدت القوى المناوئة تحت اللواء الروسي وأوقعت بالجيش العثماني المفكك هزيمة كتبت حولها القصص والروايات وأبيات الشعر التي حفرت في ذاكرة الشعب التركي الكثير من المآسي وكانت المقدمة الحقيقية لتراجع وسقوط الإمبراطورية العثمانية في أكثر من جبهة وبقعة.

تفكك الاتحاد السوفياتي وتشرذمه كان فرصة الأمل الأولى للأتراك بعد مرور أكثر من 85 عاما على هزيمة البلقان لعودة الالتحام بين القوميات التركية المنسية في تلك المنطقة، والتي ذاب الكثير منها تحت تأثير التمدد والانتشار الروسي أو نتيجة حملات التهجير والنفي والدمج الديني واللغوي والاجتماعي، لكنها ظلت رغم كل شيء تنتظر عودة الأم الحنون (تركيا) لانتشالها من معاناتها هذه.

سياسة الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال تحت شعار إعادة توحيد الجمهوريات التركية سياسيا واقتصاديا وأمنيا في مطلع التسعينات قابلها على الفور رد عنيف من القيادات والقوميات الأخرى المتمركزة في البلقان، مستهدفة المسلمين هناك في البوسنة والهرسك وكوسوفا وبريشتينا من خلال مجازر وتصفيات عرقية ودينية أودت بحياة عشرات الآلاف من الأبرياء وتغيير معالم الخارطة الجغرافية والعرقية للمنطقة. لكن الصراع على البلقان سرعان ما تحول إلى مواجهات استراتيجية أميركية عبر إغراءات اقتصادية وأمنية، وروسية عبر مشاريع الطاقة والتلويح بالعصا المسلطة فوق رأس الكثيرين هناك، ودخول أوروبي على الخط من خلال عرض العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي على البعض أو تقديم تسهيلات إلغاء تأشيرات الدخول على البعض الآخر.

كل هذا كان يجري ويدور أمام أعين أحمد داود أوغلو وزير خارجية تركيا، صاحب أفكار ضرورة العودة إلى البلقان ومد يد العون للأقليات التركية المنتشرة هناك، الذي قرر التحرك على الفور باتجاه تلك المنطقة لأكثر من سبب تاريخي وديني وأخلاقي. ربما خصائص السياسة الخارجية لـ«العدالة والتنمية» التي تتميز ببراغماتية وواقعية تامة في التعامل مع المسائل والأحداث هي التي جعلتها تتحرك لتكون جزءا من هذا التنافس. فأنقرة أيضا لها حساباتها ومصالحها التي تفرض عليها أن تكون هناك وفي قلب المنافسة.

حملات أحمد داود أوغلو باتجاه قيادات البوسنة والهرسك وصربيا السرية والعلنية خلال العامين الأخيرين والتي أحصينا من خلالها 10 لقاءات دبلوماسية وسياسية مباشرة والتي صاحبها الكثير من الهبات الباردة والساخنة وإصرار الخوجا على المضي في مهمته حتى النهاية رغم انزعاج أصحاب المصالح والكثير من اللاعبين الأساسيين في تلك الجغرافيا، أقنعت الجانبين بفتح صفحة جديدة من العلاقات توجت بلقاء اسطنبول الثلاثي على ضفاف البوسفور، شاركت فيه القيادات السياسية العليا في هذه البلدان.

ورغم أن رأس الدبلوماسية التركية كشف رسميا عن خطته هذه قبل شهر فقط خلال زيارته الأخيرة إلى بلغاريا، فإن نقطة البداية كانت خلال شهري فبراير (شباط) ومارس (آذار) الماضيين مع إقناع البلدين بتبادل السفراء وتحسين العلاقات الدبلوماسية كبادرة حسن نية رافقت اعتذار البرلمان الصربي عن المجازر التي ارتكبت عام 1995 في البوسنة ضد مسلميها.

المشروع التركي في البلقان حلقة من مشروع انفتاحي واسع على دول الجوار التركي تريده أنقرة أن يكون مرتبطا بمشروع دول الجوار العربي؛ انفتاح تجاري سياسي وثقافي، انتقال من دون تأشيرات أو عوائق وحواجز، وهذا هو أساس العقدة؛ أن تقبل الدول والتكتلات الأخرى بروز تكتل تنافسي واسع من هذا النوع يحملك في الصباح من العاصمة الصربية بلغراد ويتركك في اليوم الثاني في مدينة العقبة الأردنية تستمتع بعطلة سياحية هناك تجمع آسيا وأوروبا، الشرق والغرب، البلقان والأناضول وسواحل البحر الأحمر. الرد الأوروبي عبر العضوية الكاملة لكرواتيا بأسرع ما يمكن والتحرك الأميركي لإلحاق البوسنة بمنظمة حلف شمال الأطلسي ومسارعة موسكو لتوقيع المزيد من العقود والاتفاقيات التجارية والنفطية والغازية مع دول البلقان، جمهورياتها السابقة أو حلفاء الأمس، سيكون الرد على النقلة الاستراتيجية التركية هذه. فهل سيكون كافيا لقطع الطريق عليها؟ أم أن هناك أوراقا ومفاجآت أخرى بيد الغاضبين والقلقين على مصالحهم في تلك البقعة من العالم؟

من المؤلم مثلا أن تكون اسطنبول تستضيف لقاء صلح وتعاون بين البوسنة والصرب في محاولة لإنهاء خصومة تاريخية موجعة وأن تكون الدياسبورا الأرمنية تطارد الأتراك في اليوم نفسه الذي تتذكر فيه ضحاياها الذين سقطوا بالآلاف عشية الحرب العالمية الأولى، بإحراق أعلام تركيا وصور قياداتها، وأن تعلن يريفان من جانب واحد تجميد الاتفاقيات والعقود الموقعة مع أنقرة، دافعة بالأمور نحو طريق مسدود يطيح بكل الجهود والآمال والأحلام بمصالحة تاريخية أخرى نحتاجها جميعا.