القرآن الكريم في مرآة الغرب

TT

كنت متهيئا للسفر إلى القاهرة من مطار شارل ديغول. وفي فترة الانتظار التي قد تطول عادة مررت على مكتبة المطار من أجل تضييع الوقت فوجدت أن كتاب بول ساركوزي والد الرئيس الفرنسي يحتل الواجهة. وبعد تقليب صفحاته اكتشفت أن الرجل عندما جاء إلى فرنسا هاربا من هنغاريا والجحيم الشيوعي لم يكن في جيبه فلس واحد فراح ينام على فوهة المترو لكي يحمي نفسه من البرد. من كان يتوقع أن هذا الرجل المغترب الضائع سوف ينجب ابنا عام 1955 وأن هذا الابن سيصبح رئيسا لجمهورية فرنسا؟ سبحان مقدر الأحوال.

تغلغلت في المكتبة أكثر فوقع بصري على مجلة «الفلسفة». وهي مجلة شهرية أصبحت تظهر منذ فترة وتلفت الانتباه بعنوانها المكتوب بالخط الأحمر العريض. لم أكن لأشتريها لولا أني وجدت أن العدد خاص ومكرس كله للقرآن الكريم. والواقع أن تراثنا الإسلامي أصبح الشغل الشاغل لمثقفي الغرب منذ عشر سنوات أو أكثر أو بالأحرى منذ 11 سبتمبر (أيلول). ولكن كم هو عدد الكتب أو المطبوعات الرخيصة التي لا تفيد القارئ في شيء وربما ضرته؟ إنها تشوه الصورة بدلا من أن تصححها. إنها سطحية سخيفة. لحسن الحظ فإن هذا العدد يختلف. فهو أولا صادر عن مجلة «الفلسفة». وهو ثانيا يحتوي على مساهمات ومختارات لكبار المفكرين الأحياء منهم والأموات. أغرتني صفحة الغلاف المكتوبة بالخط العريض، التي تقول ما يلي: ماذا يقول القرآن عن الحرية، والشريعة، والنساء، والجهاد، والعقل؟ موضوع مغر وحساس ولم أستطع المقاومة فاشتريت المجلة فورا. ثم تضيف المجلة قائلة: الأجوبة تجدونها في الداخل على لسان ابن رشد، ونيتشه، ومحمد إقبال، ولا يبنتز، وفالزر رحمان، وكلود ليفي ستروس، وآخرين عديدين..

من يستطيع مقاومة إغراء كهذا؟ ألا نحب أن نعرف ماذا يقوله نيتشه عن الإسلام والقرآن؟ اشتريت العدد إذن ثم ذهبت ووقفت في الصف منتظرا دوري للدخول والإقلاع. فإذا بالسيدة التي تقف أمامي تلتفت نحوي وعندما رأت المجلة صرخت قائلة: وأين وجدت هذا العدد؟ إنه مغر فعلا وهام. قلت لها اشتريته للتوّ من المكتبة في الطابق التحتي. ثم نظرت إليها وتساءلت: هل هي فرنسية يا ترى؟ من شكلها رجحت القول بأنها من البورجوازية المصرية. إنها سيدة محترمة ومثقفة. رحت أقلب صفحات المجلة في الطائرة وأستمتع بآراء كبار المفكرين عن الإسلام وأنا متوجه إلى القاهرة لحضور مؤتمر الترجمة. وشعرت بأن بين يدي كنزا معينا لا ينبغي التفريط فيه. نحن نعتقد بسبب أصولنا الإسلامية أو تربيتنا القرآنية أننا نعرف ما هو القرآن الكريم. فهل يمكن لعربي أو مسلم ألا يعرف ما هو القرآن؟ ولا يخطر على بالنا إطلاقا أن معرفتنا ذاتية، عاطفية، أكثر مما هي موضوعية أو تاريخية أو علمية. والشيء الممتع والجميل الآن هو أنك تستطيع أن تتعرف على كتاب الله بشكل ناضج ومن خلال آراء وتحليلات كبار المفكرين. ثم تقارن هذه المعرفة الفلسفية بتلك «المعرفة» القديمة التي شكلتها عنه أثناء الصغر عندما كنت غضا صغيرا بعمر الورد وعندما كانت ترتله على مسمع والدك بكرة وأصيلا. هذه المقارنة بين المعرفة البدائية القديمة والمعرفة الفلسفية الجديدة هي التي تحدث شرارة التنوير في أعماقك فتضيء لك التراث العربي الإسلامي بشكل لم يسبق له مثيل من قبل.

بعض الجهلة في الغرب يزعمون بأن القرآن هو كتاب عنف من أوله إلى آخره! فماذا يقول كبار المفكرين عن الموضوع؟ جاك بيرك الذي أمضى عمره في دراسة القرآن وترجمته إلى الفرنسية يقول لك: إن نص القرآن يتمحور كله حول فكرة واحدة هي: وحدانية الله. ثم يردف قائلا: إن القرآن على عكس ما يفهمه بعض المسلمين هو ضد الجمود، إنه دعوة لاستخدام العقل والابتكار والتجديد. وبالتالي فأعيدوا قراءته أيها المسلمون ولكن على ضوء المناهج التاريخية الحديثة كما فعل البروفسور جاك بيرك. أما المفكر الباكستاني الشهير فالزر رحمان فيقول بأن معظم المسلمين المعاصرين لم يفقهوا القرآن على حقيقته لأنه ينقصهم الوعي التاريخي والعقلاني. ثم يطرح هذا السؤال في كتابه عن «الإسلام والحداثة» قائلا: لماذا كانت العصور الأولى للإسلام مليئة بالغليان الثقافي، في حين أن العصور المتأخرة جامدة فكريا إلى أقصى الحدود؟ لماذا كان المسلمون الأوائل مستنيرين، في حين أن المسلمين الأواخر، أي نحن بالذات، أبعد ما يكونون عن الاستنارة؟ بمعنى آخر: ما الذي حصل لكي تتوقف الحركة الفكرية والإبداعية في أرض الإسلام؟ ولماذا انتقل مشعل الحضارة إلى أوروبا؟ ما هي الطامة الكبرى التي حلت بنا وجعلتنا في مؤخرة الأمم بعد أن كنا في مقدمتها؟

قد يقولون: ولكن هذه تساؤلات أكاديمية بعيدة عن الواقع ومشكلاته المحسوسة. وأنا أزعم بأنها تساؤلات سياسية بالمعنى النبيل والقوي لكلمة سياسة. بل إنها أكبر سؤال سياسي مطروح على عصرنا في الوقت الراهن. وكما قال الدكتور رضوان السيد في مؤتمر الجنادرية الأخير صارخا ومحتجا: لا يمكن أن ينشغل مفكرو الغرب بتراثنا وقضايانا وسلفيتنا ونظل نحن مكتوفي الأيدي لا نحرك ساكنا ولا نراجع شيئا ولا نصحح ولا ننتقد!..