رحم الله محمد عابد الجابري

TT

انتقل إلى عفو الله رجل ملأ ساحة الفكر العربي المعاصر، فكثر القول منه وفيه، كما قال أبو بكر بن العربي في حق شيخه أبو حامد الغزالي، ربما كان للمقارنة إغراؤها، وقد نجد في كتابة الجابري، أحيانا ما يغري بها، وإن رأى البعض في هذا القول غرابة أو شذوذا في النظر إلى مفكر اشتهر بحماسته الشديدة لقاضي قرطبة، وبجنوحه في الأغلب الأعم إلى الالتحاق بالزمرة المعتادة في الحكم على صاحب «المستصفى» من جهة النظر، التي كان يعتقد أنها كانت لابن رشد وشيعته.

ولكن المقام، ونحن لا نزال تحت وقع صدمة وفاة محمد عابد الجابري، لا يتسع للقول في قول الرجل في الغزالي وابن رشد وغيرهما. فما إلى هذا نميل في هذه الفقرات القصيرة، ولسنا إلى النظر في مشروع «بنية العقل العربي» نقصد، فليس يصح ذاك، ونحن في حالنا اليوم نود أن نحدث القارئ العربي في جوانب لا نحسب أنها معلومة مشهورة من حياة مؤلف «نحن والتراث»، و«تكوين العقل العربي»، وما انتظم في هذا المسلك.

أول عمل محمد عابد الجابري، قبل دفاعه عن أطروحته لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة من جامعة محمد الخامس تحت إشراف محمد عزيز الحبابي، في يونيو (حزيران) 1967، كان انشغالا مزدوجا بالتعليم والتربية وما اتصل بهما من الهموم البيداغوجية وبالسياسة والعمل السياسي اليومي في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم عمل عضوا مؤسسا وقياديا فيما سيغدو بعد ذلك - حتى اليوم - الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. والهمان السياسي والبيداغوجي - كانا متضامنين متداخلين - وتداخل الهمين لازم الجابري، لذا التحق بكلية الآداب في الرباط في نهاية ستينات القرن الماضي، فتجلى التداخل في المقاربة الفلسفية نظرا وتدريسا وتأليفا مدرسيا. وقد يكون من باب الوفاء لذكرى الرجل أنه أسهم بنصيب ضخم في تأطير كلية شعبة الفلسفة، وذلك بتأمين دروس في مجالات الفلسفة اليونانية وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية والفلسفة الحديثة والمعاصرة، بل إلى الضرورة ونقصان الأساتذة والمدرسين. وما نقول عنه إنه التداخل بين الفكرين الفلسفي والسياسي، أمور حملت محمد عابد الجابري أن يلامس درس علم النفس أحيانا.

عرف محمد عابد الجابري جدل التكون من خلال التكوين، التعلم من خلال التعليم. ذاك كان الشأن في الكتاب المدرسي المعد لتلاميذه في البكالوريا، إذ ألفه مع صديقين زميلين من جيله، وذلك كان من حملة الدروس التعريفية بفلسفة العلوم والابستيمولوجيا المعاصرة.

وحصيلة الهموم السياسية النهضوية التنويرية في جانب منها والقومية العروبية في جانب آخر منها. والهموم البيداغوجية بجانبها، وضرورات الدرس الجامعي في شعبة الفلسفة حديثة العهد بالتدريس بلغة الضاد وحدها - بعد أن تقرر حذف القسم الفرنسي في شعبة الفلسفة - أسهمت كلها في إعداد الرجل لمشروع سيسعى إلى إقامته لبنة لبنة بنفس طويل وصبر.. نقول اليوم صادقين إنه صبر قل نظيره في وجودنا العربي المعاصر. مشروع كان أبناء جيلي شهودا عليه، قراءات جديدة فعلا في فكر كل من الفارابي وابن رشد وابن سينا، ابن باجه، وابن خلدون والشاطبي. عندما أقول إننا كنا شهودا عليه، فإنني أقصد بذلك نحن الذين لم نكن جميعا من تلامذته المباشرين في سنوات الإجازة، (أسماء أذكر منها عبد السلام بن عبد العالي، يفوت، محمد وقيدي) ذلك أننا كنا جميعنا قد تخرجنا في الكلية عند التحاق الجابري بها مدرسا، وإن كنا جميعا ممن حضروا درسه في الدراسات العليا، وعرفوه مشرفا على رسائلهم الجامعية وأطروحاتهم لنيل الدكتوراه في موضوعات ليست تتقارب دوما، وليست تنتمي بالضرورة إلى مجال واحد نتكلم فيه. والوفاء يستدعي منا جميعا أن نستحضر تلك السنوات وما شابها من حماس وانفعال شديد، وما لازمها من انقباض، وتوتر حينا آخر. نستحضرها، وندعو لمحمد عابد الجابري بالرحمة والمغفرة، ونشيد به مربيا أستاذا أسهم في تكوين زمرة من الباحثين والمدرسين، عملوا بدورهم على الإسهام في تكوين أجيال من خريجي شعب (أقسام) الفلسفة في كليات الآداب في الجامعات المغربية.

خشيت أن تلقي صورة محمد عابد الجابري، صاحب مشروع «بنية العقل العربي»، بظلالها على صورة أخرى ليست تقل قوة في الفعل والتأثير على صورة المربي والمدرس.. الجندي الذي عمل في صمت وإصرار، لا شك أن البناء لا يتم مع عدمهما، ولا شك أن النظام لا يستقيم مع غيابهما.. خشيتي هذه تجعلني في رد الفعل هذا، والرجل لم يوار بعد في التراب، أن أنبه على تلك العلامات، وأن أشيد بجهود الأيام الخوالي.

رحم الله محمد عابد الجابري

* مفكر مغربي