استباحة..

TT

جريمة فردية مروعة استولدت جريمة جماعية فظيعة وصادمة، والجريمتان استولدتا جدلا وصخبا إعلاميا يحمل في طياته بذور تحريض على جرائم مستقبلية مماثلة..

لم يكد الرأي العام يستوعب كيف تم قتل مسنين وحفيدتيهما الصغيرتين والتمثيل بجثثهم في قرية كترمايا اللبنانية، حتى تدفقت مشاهد تعذيب واستباحة جماعية متلفزة للمشتبه بارتكاب الجريمة الأولى.

مشاهد الجلادين الكثر وزغاريد النساء والأصوات المشبعة بالانتقام ووقائع التنكيل تناقلتها الشاشات والمواقع الإلكترونية دون أي رغبة في الحذف أو الانتقاء ولا في تجنيب المشاهد قسوة، أين منها قسوة الجريمة.. تلك المشاهد كشفت على نحو لا لبس فيه الطبيعة المرعبة والدموية لفكرة الثأر والتوق إلى العنف وكيف لهذا القتل أن يكون جماعيا وهستيريا على النحو الذي شهدناه. ولم يكن ممكنا لطقوس الثأر الجماعي أن تكتمل لولا العجز الفادح للدولة التي تتردد حتى اللحظة في اعتقال المتورطين في جريمة قتل المشتبه به وهو ما حال حكما دون تحقيق العدالة في الجريمة الأولى. لم يكن للمشاركين في حفلة القتل الجماعية أن يستأسدوا على جثة لولا الضعف المزمن لمعنى العدالة المدنية التي كانت الخاسر الأكبر في حفلة الاستباحة تلك.

هستيريا القتل ولدت هوسا إعلاميا ونقاشات حول ما جرى في كترمايا بحيث انقسم النقاش ما بين مؤيد لفعلة سكان من القرية ومحتج ورافض لها. ومجرد أن تبرز شريحة واسعة متفاوتة المستويات لكنها تجمع على أن ما ارتكبه هؤلاء هو «قصاص عادل» ونتيجة حتمية لتراجع الدولة في تطبيق عقوبة الإعدام فهذا يؤشر على مدى الدرك الذي انحدرت إليه ثقافة العدالة والقانون.

المشتبه به لم يحاكم ولم يثبت قضائيا أنه مرتكب الجريمة البشعة الأولى، وحتى إن ثبت ما تردد بأنه القاتل فهل التنكيل به سيعيد لضحايا الجريمة الأولى أرواحهم!!

يعتب بعض من أهل ضحايا جريمة كترمايا الأولى على الإعلام الذي انشغل بقضية «السحل» والتنكيل بحق المشتبه به ولم يسلط الضوء على ما تعرض له الجدان والطفلتان من تنكيل ووحشية، بل هناك من طلب من الإعلام عرض صور تظهر التمثيل الذي مورس على جثتي الطفلتين باعتباره سببا للمصير الذي لاقاه المشتبه به المصري.

وإن كانت فظاعة ما تعرض له عجوزان وطفلتان سببا لفهم غضب أهل الضحايا، فما الذي يفسر انحياز جزء من الإعلام ومن الرأي العام إلى هذه الفعلة. ثم إن الإعلام الذي أدان فعلة القتل الجماعي والتمثيل لم يتوان عن الإمعان في أذية من نوع آخر تتمثل في عرض متواصل لمشهد الجثة معلقة على عامود كهربائي في البلدة أو لمشاهد مقززة أخرى..

سقط كثيرون في فخ «عدالة الإعدام» متناسين حقيقتين؛ الأولى أن هذه العدالة لم تنعقد يوما لدهماء يمعنون في تقريبها من الجريمة ممارسين غرائز عنيفة، والثانية أن العالم يفكر اليوم في جدوى عقوبة الإعدام وفي مدى تشكيلها عنصرا رادعا عن الجريمة.

diana@ asharqalawsat.com

* مقال اسبوعي يتابع قضايا الإعلام