انتصار «النظام»

TT

بين الكثير من السلع التذكارية التي تباع للسياح في لندن كوب قهوة من البورسلين، نقشت عليه بأحرف بارزة جملة مأثورة تقول: «لا يمكنك قهر النظام (You can not beat the system)».

كثير من الزوار الأجانب للعاصمة البريطانية يشترون هذا الكوب - المحبط للتغيير - قناعة منهم بأن «النظام» في المملكة المتحدة، المتخم بالتقاليد والأعراف، يصعب فعلا تبديله، فكم بالحري الانتصار عليه في بلد لم يتخل عن استقرار نظامه البرلماني، عبر التاريخ، إلا مرة واحدة (في عهد أوليفر كرمويل).. ليعود إليه بقوة.

لا جدال أن أبرز أعمدة هذا «النظام» هو «الثنائية الحزبية» التي تحصر الحياة السياسية، عمليا، في حزبين رئيسيين يقرر الناخب البريطاني، دوريا، أيهما يرشح للحكم وأيهما للمعارضة، قاطعا الطريق على فرص أي حزب ثالث في بلوغ حجم نيابي يخوله تغيير هذه الصيغة التراثية «للنظام» السياسي في بلده.

على هذه الخلفية، تحديدا، يمكن تقويم نتائج الانتخابات البريطانية الأخيرة، على اعتبار أن ما أفرزته من «برلمان معلق» - لا أكثرية مطلقة فيه لأي من الحزبين الرئيسيين - يندرج في خانة نظام الثنائية الحزبية أكثر مما يشكل خروجا عليها، فالناخب البريطاني الذي تعمد «معاقبة» الحزبين الرئيسيين (العمال والمحافظين) على تقصيرهما طوال سنوات حكمهما، في تحقيق طموحاته الاقتصادية والاجتماعية (والبريطاني ينتخب عبر جيبه أولا)، لم يشأ أن يبلغ اقتراعه العقابي حد الخروج عن نظام الثنائية الحزبية. وعليه حرم الحزب الثالث، أي الحزب الديمقراطي الليبرالي، من فرصة التحول إلى الحزب البديل لأي من حزبيه الرئيسيين، فمنحه كتلة نيابية تقل عدديا عن حجم كتلته السابقة، بل حوله، عمليا، إلى مجرد حزب داعم لنظام الحزبية الثنائية التقليدي - مؤقتا على الأرجح.

باختصار، ورغم خروج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ظاهريا، عن المألوف في عمليات الاقتراع السابقة في المملكة المتحدة، فقد انتهت بتعزيز تقاليد «النظام» البريطاني عوض تقويضه أو تجاوزه.

حتى لو صح استنتاج بعض المحللين أن اللعبة السياسية البريطانية بدأت تعاني من عوارض المرض الأوروبي المزمن المتمثل في الحكومات الائتلافية بين مجموعات من الأحزاب، فإن اقتصار هذه «العدوى» على خيار التعاون مع حزب واحد يوحي بأن التجربة الحكومية الائتلافية الراهنة في المملكة المتحدة ستكون، في حال فشلها، مبرر العودة بقوة إلى نظام الثنائية الحزبية المطلقة، وفي حال نجاحها ستعد مؤشرا لجدوى «معاقبة» الناخب لأي من حزبيه الرئيسيين استنادا إلى دور الحزب الثالث في تعزيز فرص الحزب الأكثري لتسلم السلطة.. في إطار الثنائية الحزبية المعمول بها، لا خارجها.

إثبات الانتخابات البريطانية الأخيرة تجذر نظام الثنائية الحزبية في المملكة المتحدة قد يعود إلى تقليد حضاري. لكنه يعود أيضا إلى وضوح القضايا الخلافية على الساحة السياسية، بحيث لا تحتاج إلى أكثر من «قرار» بهذا الاتجاه أو ذاك - وفي مقدمتها الموقف من العجز المالي والحالة الاقتصادية بشكل عام، والموقف من مستوى العلاقة مع الاتحاد الأوروبي بشقيها المالي والإنساني.

قد تكون الثنائية الحزبية ظاهرة «أنغلوسكسونية» أيضا بدليل اعتمادها في الولايات المتحدة وألمانيا الاتحادية (حيث فشل الحزب الثالث، الحزب الديمقراطي الحر، في التحول هو أيضا إلى حزب بديل للحزبين الرئيسيين).. لكن، مهما قيل فيها، قد تكون الإطار الأسلم لديمقراطية برلمانية فاعلة.