العرب والتغيرات الدولية والإقليمية

TT

ثمة حقيقتان ملموستان لا تخطئهما العين ترتسمان في فضاء منطقتنا الموصوفة في الأدبيات الغربية بالشرق أوسطية، مع اختلاف في ضبط حدود هذه الأوسطية ما بين توسيع وتضييق. أولهما صعود أدوار قوى إقليمية مجاورة للعرب مثل تركيا وإيران، دون أن نتحدث هنا عن إسرائيل التي تظل الحاضر الغائب في كل ما يجري في هذه الرقعة من أحداث وتطورات. وثانيهما ضمور الدور العربي إلى حد كبير خلال العشرية الأخيرة لأسباب كثيرة سنقف عند بعضها لاحقا.

تركيا المجاورة، وفي حقبة حزب العدالة والتنمية تشهد عودة نشيطة إلى حاضنتها الشرقية، بعدما أوصدت الأبواب الأوروبية في وجهها إلى أمد غير معلوم. فمع صعود حكم اليمين بقيادة ميركل في ألمانيا، ثم ساركوزي في فرنسا تبخر ما بقي من آمال لدى أنقرة في الالتحاق بالنادي الأوروبي. الأتراك يدركون هذه الحقيقة جيدا، وإن كانوا لا يجاهرون بها لاعتبارات كثيرة تخصهم، ولذلك هم منخرطون فيما هو أهم من ذلك، أي ترجمة رؤية وزير خارجيتهم داود أوغلو في ما سماه بسياسات الأبعاد المتعددة، التي تعتبر الفضاء العربي والشرقي عامة أحد أهم المكونات الرئيسية المشكلة للهوية التركية بدل الإمعان في طرق أبواب مغلقة إلى أمد غير معلوم. طبعا مثل هذه العودة لم تنبن من فراغ، بل هي في الحقيقة استمرار للخطوات التي دشنها الرئيس التركي الأسبق تورجت أوزال الذي بدأ سياسة الانفتاح التدريجي على الجوار العربي والإسلامي، وهي فضلا عن ذلك لا تنبني على اعتبارات عقائدية أو دينية بقدر ما تنبني على اعتبارات المصالح الاقتصادية والسياسية أكثر من أي شيء آخر.

على الجهة الأخرى تعمل إيران جاهدة على غرز أقدامها في الرقعة العربية والمحيط الآسيوي من حولها، وحتى ما هو أبعد من ذلك، للاستفادة أكثر ما يمكن من الفراغات التي خلفتها رعونة التدخلات العسكرية الأميركية المشطة، خصوصا في العراق وأفغانستان، جنبا إلى جنب مع تصميم طهران على استكمال الدورة النووية، بما يجعلها في وضع أفضل وأقوى من الناحية الاستراتيجية، حتى وإن أحجمت عن تحويل هذه التقنية إلى ميدان الاستخدام العسكري.

مقابل ذلك يبدو العرب في حالة ارتباك وحيرة من أمرهم، بسبب غياب الرؤية الشاملة، وتضارب الخيارات والأولويات، والأخطر من ذلك اهتزاز الثقة في النفس والشعور المفرط بالعجز، وهو شعور في الحقيقة لا يتناسب مع إمكانيات العرب وما بين أيديهم من أدوات القوة الصلبة والناعمة.

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ثم بصورة أوضح بعد غزو العراق شهد العمل العربي المشترك تراجعا مريعا، خصوصا في ضوء اندفاعات المحافظين الجدد نحو المنطقة وحرصهم على تغيير التوازنات التي استقرت فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تقريبا، بما جعل كل دولة عربية تنكفئ على نفسها وكأنها جزيرة معزولة لا شأن لها بما يجري حولها. في مثل هذه الأجواء استقرت قناعة خفية، وأحيانا مجاهرة، بين الساسة وحتى الكثير من المثقفين العرب، مفادها أنه يتوجب على كل قطر عربي تدبر أمره ونزع الشوك بنفسه لإنقاذ رأسه في مواجهة العواصف التي أطلقتها سياسات المحافظين الجدد، وهي مقولة لم تصمد في الحقيقة أمام تعقيدات وضع دولي بالغ التنافسية والشراسة، إذ تبين أن مثل هذه الرؤية مهددة لأمن العرب فرادى ومجتمعين، لأنه عند التحقيق يتبين أنه لا يوجد أي قطر عربي قادر بمفرده ومهما أوتي من إمكانات، على حماية وجوده وتأمين الحد الأدنى من مصالحه بمعزل عن النسيج العربي الأوسع، وهذا ما يجعل مقولة التضامن العربي ليست مجرد مسألة أخلاقية أو آيديولوجية بل هي حاجة سياسية ملحة لتأمين حياة الدولة العربية واستقرارها أصلا.

بيد أنه منذ ذلك الوقت، أي منذ أن تحركت البوارج الحربية الأميركية باتجاه المنطقة وإلى يومنا هذا، جرت مياه كثيرة في النهر الإقليمي والدولي المحيط بالعرب، وهي في مجملها متغيرات تصب لصالح العرب وقضاياهم الحيوية إن هم حزموا أمرهم واستعادوا قدرا من العزم والثقة في أنفسهم، بما يساعدهم على تحسين وزنهم الاستراتيجي، وتحجيم المخاطر التي تحوم فوق رءوسهم، مثلما تتيح لهم هامشا من الحركة والمبادرة أكثر من أي وقت مضى.

أول هذه المتغيرات الحاصلة على الصعيد الدولي، تتمثل في تراجع الانفرادية الأميركية لصالح تعددية قطبية آخذة في التشكل، وإن لم تستقر بعد على صورة محددة أو هيئة معلومة، خاصة مع تنامي أدوار دول كبرى مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها، ولعل هذا ما أوحى لبعض الباحثين الأميركان بتسمية هذا الوضع الجديد والناشئ باللاقطبية، بديلا عن مقولة القطب الواحد، أو حتى الأقطاب المتعددة. صحيح أن الولايات المتحدة تظل القوة الأولى إذا نظرنا إليها بالمقاييس العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية، وستظل كذلك ربما لعقود قادمة على الأقل، بيد أنه من المؤكد إذا ما وضعت الولايات المتحدة الأميركية مقابل قوى دولية وحتى إقليمية أخرى فلن تكون الكفة راجحة لصالحها ضرورة. لقد تبين أن الساحة الدولية بكل تناقضاتها وتعقيداتها أكبر بكثير من قدرة أي قوة دولية مهما كان حجمها ومضاء أنيابها على تحمل أعباء إدارتها بصورة انفرادية، بل فرض إرادتها على الآخرين. هذه ليست مجرد فرضية نظرية مستخرجة من بطون كتب العلاقات الدولية، بل هي حقيقة حية نشهدها في حالة التدافع الدولي الذي يجري أمام أبصارنا اليوم. الواضح أن الولايات المتحدة الأميركية لا قبل لها بفرض إرادتها على الآخرين، ومن ثم أضحت مرغمة على نهج سياسة المساومات والتسويات مع ما يستتبع ذلك من تنازلات لازمة لتمرير مشاريعها أو أولوياتها السياسية. وهذا ما بينه مشروع فرض عقوبات على إيران. حيث تمكن الروس من تنازلات أميركية في قضايا استراتيجية كبرى ذات أولوية بالنسبة لهم، مقابل موافقة مترددة على فرض هذه العقوبات، والصينيون ما زالوا يخوضون لعبة الشد والجذب على هذا الصعيد.

أما إذا عدنا للحديث هنا على المستوى الإقليمي المجاور لنا، فإنه لا يتوجب النظر هنا إلى تركيا الناهضة والراغبة في تجديد صلاتها بالمحيط العربي على أنها غريم أو خصيم للعرب، بل يمكن، إن أحسن العرب استقبال الرسائل التركية، أن تكون هذه التوجهات الجديدة مساعدة لهم على تعزيز روابط التاريخ والجوار والثقافة وتوثيق عرى المصالح السياسية والاقتصادية المشتركة.

أما إيران، ورغم أنه لا يمكن التهوين من مساحة الاختلاف معها خصوصا في الساحة العراقية، فإن ذلك لا يعدم إمكانية الدخول معها في مساومة وحوار جادين يضعان سائر القضايا الخلافية على طاولة المفاوضات باتجاه معادلة تضمن وتؤمن مصالح الطرفين العربي والإيراني على السواء. الحقيقة أن السياسة الإيرانية بالغة التركيب، يتداخل فيها البعد الطائفي بالبعدين القومي والديني، والاندفاعات الثورية بالاعتبارات البرجماتية، فهي من جهة أولى لا تتردد في استخدام الورقة الطائفية للسيطرة على العراق، ولكنها من جهة أخرى تبدو شديدة الصلابة في مواجهة الدولة العبرية والتدخلات الخارجية. ولكن المؤكد في كل ذلك أن للجغرافيا شروطها وقوانينها التي لا يمكن تجاهلها. فإيران، ومهما كانت تحفظاتنا إزاءها، تظل في نهاية المطاف بلدا مجاورا ومؤثرا في أوضاع المنطقة وما يجري فيها من أحداث. هذه حقيقة يجب حسبانها بعقل وقلب باردين بعيدا عن المشاعر والأهواء، وما نحبه أو نكرهه في إيران.

بيد أنه من المؤكد هنا أن وجود نواة عربية فاعلة ونشيطة كفيل بأن يعيد قدرا من التوازن المفقود في المنطقة، كما يتيح استثمار مجمل هذه المتغيرات الدولية والإقليمية الآخذة في التخلق لصالح العرب وجوارهم الأوسع، باتجاه تأسيس شراكة حقيقية تجمع مكونات المنطقة الثلاثة من العرب والترك والإيرانيين، بما يجعل فعلا من الفضاء الشرقي الواسع شرقا عربيا إسلاميا بامتياز، بدل أن يكون شرقا أميركيا أو أوروبيا، بل أن يكون صينيا أو هنديا في المستقبل البعيد، وربما تكون عودة الحياة وخيوط التواصل مجددا بين القاهرة ودمشق والرياض خطوة في الاتجاه الصحيح، هذا ما نأمله على الأقل.

* كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي والعلاقات الدولية