مسائل التأصيل في الفكر والسياسة وتفسير الماضي والحاضر

TT

قبل أسبوعين ألقى الشاعر المعروف أدونيس، بدعوة من جامعة البلمند، محاضرة بفندق البريستول ببيروت، عاد فيها كالعادة إلى تكرار تأصيلياته لظواهر «الفساد والانحطاط» في حياتنا أو حضارتنا، فأعاد الديكتاتورية والتسلطية إلى اجتماع السقيفة الذي انتهى إلى مبايعة أبي بكر، فظهور مؤسسة الخلافة، وأعاد الجمود الديني إلى الخروج عن إسلام الرسالة والدخول في إسلام آيديولوجي، وأعاد المحافظة الاجتماعية إلى التفرقة بين الجنسين واحتقار الجسد وتقديم الرجل على المرأة. وكما سبق القول؛ فإن أدونيس يكرر هذه التأصيلية الفظيعة منذ أكثر من عقدين من الزمان؛ في حين كان الزميل الدكتور كمال عبد اللطيف قد اجترح تأصيلية أخرى للنزعة التسلطية في أنظمتنا الحديثة، عندما أعادها إلى كتب «نصائح الملوك»، وهي مؤلفات ورسائل كان علماء وأدباء وموظفو ديوان يكتبونها للأمراء الصغار من أجل التربية والتدريب، كما كانوا يهدونها أحيانا للملوك والأمراء في ظروف بدء الولاية أو تفاقم الأزمات.

إن هذا «التأصيل» للظواهر السلبية في حياتنا يحدث في الأقل. أما في الأكثر فإن المثقفين العرب المحدثين يمارسون التأصيل للظواهر الإيجابية، فيعيدونها إلى العصر الأول، إما لتجذيرها والدعوة إلى نصرتها بسبب أصالتها وعراقتها، أو للدعوة إليها باعتبار أنها هجرت، وقد أصاب الأمة من جراء ذلك ضرر كبير ينبغي تجنبه عن طريق العودة إليها والتمسك بها. ومن الطبيعي أن يكون الجانب الديني من هذا التأصيل هو الأهم والأخطر والأكثر تأثيرا في مضامينه ونتائجه. لكن التأصيل السياسي وشبه السياسي، الذي يتخذ سمات تمييزية دون أن يدري، خطر أيضا، لما يترتب عليه من إحساسات باليأس واللاجدوى، وصولا لعدم الإحساس بالمسؤولية. ومن أكثر موضوعات «التأصيل» انتشارا هذه الأيام الكتابات الكثيرة، والظهورات الكثيرة في التلفزيون، التي تقول كلها إنه لا فائدة من المفاوضات التي يعود إليها الفلسطينيون مع الإسرائيليين بوساطة أميركية، لأنه بالعودة «للطبيعة الأميركية» فإننا نجد أنها طبيعة إمبريالية، وهي مع أوروبا قد أوجدتا إسرائيل، وإسرائيل لا تريد السلام، وأوباما عابر، وستنتصر الطبيعتان العدوانيتان في النهاية: الإسرائيلية والأميركية. ولأن العرب ما عادوا يعرفون كيف يقيمون السلام، أو كيف يشعلون الحرب؛ فإنه لا جدوى من أي شيء!

والواقع أن العوامل المختلفة في الأزمة والقضية ينبغي حسبانها بدقة، والتجارب مع الولايات المتحدة لا يصح تجاهلها أو نسيانها، وهي تجارب مختلطة وسلبية في الغالب. لكن المسألة ليست مسألة «طبيعة» أو «طبائع» ثابتة لا تتغير سواء لجهة السلب أو الإيجاب. بل هناك موازين قوى ومصالح، وهي التي تتغير وتغير في كل زمان ومكان. وقد قال الأميركيون (والأوروبيون) دائما ولا يزالون إنهم ملتزمون بوجود إسرائيل وأمنها. بيد أنها ومنذ زمن تحولت إلى عبء عليهم لا يمكن إنكاره. وهذا الأمر ما قاله بعض السياسيين وحسب، بل ذكره العسكريون أيضا. فإسرائيل تحتل أرضا عربية (حتى بالمقاييس الأميركية والدولية) منذ عقود. وهي تصر على ذاك الاحتلال، وتمارس الاضطهاد اليومي ضد الشعب الفلسطيني، فضلا عن الحروب التي تشنها، وعدم الاستقرار الذي تتسبب به بوجود أسلحة نووية فيها، واتخاذ إيران لذلك حجة لفعل الشيء ذاته. وهذه العوامل أو الأمور ليست جديدة، بل كانت دائما محل اعتبار، إنما من دون نتائج حتى اليوم. فقد بدأ الإحساس بالعبء الإسرائيلي على أثر حرب عام 1956 التي شاركت فيها إسرائيل ضد مصر إلى جانب بريطانيا وفرنسا. لكن الاعتبار الأول ظل للحرب الباردة التي ظلت إسرائيل أداة مفيدة فيها. ولما انقضت الحرب الباردة برزت المشكلة مع العراق وتهديداته المختلفة. ونعرف اليوم أن هذه «التهديدات» كانت نتاجا مزدوجا للدعاية الإسرائيلية وحمق النظام العراقي السابق. وقد حاولت إسرائيل منذ أيام شارون، ونجحت في الاستمرار في اعتبار العراق خطرا ماحقا على إسرائيل، وقد كان ذلك بين أسباب الغزو الأميركي للعراق بالذرائع المزيفة المعروفة. وتحاول إسرائيل أن تفعل ذلك مع إيران منذ سنوات. وتسهم إيران بالطبع في ذلك من خلال تهديدات نجاد في السنوات الخمس الماضية بإزالة إسرائيل من الوجود. لكن السياسة الأميركية، ومنذ أواخر عهد بوش، ترى أنه لا حجة لإسرائيل في التهديدات الإيرانية، وأنهم هم كفيلون بحماية إسرائيل. وإنما يأتي الخطر على إسرائيل من محيطها، ومن الشعب الفلسطيني بداخل فلسطين. والسبب عدوانيتها واستعمارها للأراضي العربية. وجزء كبير من شكوك العرب والمسلمين بالولايات المتحدة، يعود لدعمها المستمر للاحتلال الإسرائيلي. وهذه القضايا كلها، في الوعي الجديد بها على الأقل، هي متغيرات يصح اعتبارها ولا ينبغي التقليل من أهميتها، والاكتفاء بالحديث عن الطبائع الثابتة التي لا تتغير لأميركا والإدارات المتوالية على سياساتها الخارجية. وإسرائيل بالطبع ليست عاملا خارجيا في سياسات الولايات المتحدة فحسب؛ بل هي أيضا عامل داخلي، بسبب وجود سبعة ملايين يهودي بالولايات المتحدة، وانتظام هؤلاء في مؤسسات ولوبيات، أدت عبر نصف القرن الماضي إلى اتساع نفوذهم وتأثيرهم على القرار السياسي الداخلي والخارجي. وهؤلاء في معظمهم مؤيدون لإسرائيل. إنما هناك فريق مؤثر بداخلهم وبداخل يهود أوروبا، يخشى على مستقبل إسرائيل إن ظلت تحتل الأرض العربية، وتضطهد الفلسطينيين بالداخل. وقد أصدر أربعة آلاف من هؤلاء بيانا قبل أسبوعين يقولون فيه هذا الكلام. وهذا متغير أيضا لا يمكن اعتباره قويا وسائدا في أوساط اليهود بإسرائيل وبالخارج حتى الآن، لكنه يصح اعتباره ومراعاته في التحليل، من دون المغامرة بالطبع باستنتاجات كبرى.

ولندع هذه التأصيلية في سياسة الحاضر، والتي تزعم إعادة الأمور إلى أصولها وهي ليست كذلك. ولنعد بإيجاز إلى التأصيليات الكبرى في الدين والفكر والتاريخ. وبالطبع ليست لأبي بكر الصديق ولا للخلافة علاقة بالحاضر السياسي الجيد منه والرديء. وما جرى في السقيفة أمر شوروي (إن يكن جزئيا)، وقد أفضى إلى قيام سلطة ودولة لو لم تحصلا لكانت هناك فوضى فظيعة وعودة إلى القبلية التي يخشى منها أدونيس. أما تفاسيره بطبائع الإسلام الأول فهي إبداعات شاعر، ولا علاقة لها بالفكر أو بالتاريخ. وطرد هذه الخنزوانات على الحاضر، هو في الواقع تأييد له وتخليد، وبخاصة إذا كانت تلك الأمور مستمرة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام! وما ذهب إليه الدكتور كمال عبد اللطيف من أن النوع الأدبي المعروف بنصائح الملوك أو مرايا الأمراء أو الآداب السلطانية هو سبب الديكتاتورية، هو نزوع شديد المبالغة. وقد يمكن استخدام هذه الكتب لمعرفة طرائق تفكير تلك النخب في السلطة، وتحقيق الاستقرار. لكنها بالقطع لا يمكن أن تستخدم في فهم أمر راهن أو مؤسسة. وكم طبلنا جميعا لابن خلدون ومقدمته وراهنيتها، ثم ها نحن نعود لأحاديث نقدية عن حدودها المعرفية والتاريخية ومحدوديتها.

ولست أعني أنه لا يمكن استخدام التاريخ وتجاربه في فهم أي أمر من أمور الحاضر والحكم عليه. لكن هذا الأمر سلاح ذو حدين، يمكن أن يكون للفهم والاعتبار والشرعنة بالطبع، ويمكن - في الغالب - أن يكون للتبرير واستساغة أفظع الأمور.

إن التجربة الإنسانية، والسياسية بخاصة، لا حدود لها، ولا قيود على آفاقها. وهي تتغذى من خبرات الماضي، لكنها لا تتجاهل اعتبارات الحاضر واهتماماته وإمكانياته. ونحن في حقبة سياسية ليست أفضل ما مر بنا حتى في الأزمنة الحديثة. لكنها لا تدعو لليأس، ولا ينبغي أن يصل بها الأمر لأسباب متصلة بذلك، للقول إنه لا فائدة، ولن يحدث تغيير في هذا الأمر أو ذاك، لأنه ينافي طبائع الأشياء! فالقضايا والمشكلات ليس لها طبائع ثابتة، وإن تكن لها طبائع؛ فإن تغييرها ممكن، ومن ضمن ذلك: اجتراح القدرة على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وتحرير باقي الأرض العربية من القبضة الإسرائيلية.