عود للبيئات والجينات

TT

هذا نقد وسؤال وجيه من القارئ جمال قريو من السويد؛ يقول إنه ما كان يصح لي أن أخوض في هذا الموضوع المعقد عن البيئة والوراثة في مثل هذه الزاوية الوجيزة. لقد استنزف من العلماء مجلدات طويلة وقصروا فيما انتهوا إليه، وأنا أسعى لحسمه في بحر أربعمائة كلمة.

هذا شيء أعترف بنقصه، وبنقصي أنا أيضا؛ فما أنا من العلماء، ولا كان العلم من اختصاصي، فلماذا أزج بنفسي في هذه المواضيع؟ أفعل ذلك لأنني أعتبر العلم مفتاح المعرفة والنجاح في الحياة والسياسة، وبه تفوق الغربيون علينا، وهذا غرضي من الخوض فيما لا أعرف. آمل من ورائه أن يتعلم جمهورنا النظر في الأمور من زاوية علمية بعيدا عن الخرافات والخزعبلات. يعتقد الكثيرون مثلا أن اليهود قصار القامة؛ لأن الله غضب عليهم وجعلهم هكذا. لكن العلم يتطلب منا أولا أن نتحقق؛ هل اليهود فعلا قصار القامة؟ نتنياهو ليس قصيرا. هل نستنتج منه أن اليهود طوال القامة؟ فالأخ عامر العامري يرد علي من إسبانيا، ويقول إن الأفريقيين ليسوا قصار القامة؛ لأنه رأى أبطالهم في كرة القدم طوالا.

أيجوز علميا أن نحكم على أمة كبيرة بحسب ما عندها من «لواعيب» كرة القدم؟ يا عزيزي الأخ العامري، الإجادة في الكرة تتطلب قامة طويلة. هكذا أصبح الطوال متميزين فيها، وجرى انتخابهم على هذا الأساس، لكنهم لا يمثلون معدل طول أبناء شعبهم. إنهم نخبة في طول البدن، لكن ربما فئة سيئة في قصر العقل، كما أجدهم غالبا.

يعلمنا العلم التريث والشك فيما نسمع، حتى فيما يقوله المعلم في المدرسة، علينا أن نفكر ونتحقق، هل ما سمعناه صحيح؟ ما الذي يسانده من حقائق وتجارب؟ يقول القشطيني إن بشرة المسيحيين في بلاد الشام بيضاء، وعيونهم فاتحة، وشعرهم أصفر. هل هذا صحيح؟ سرعان ما تجد أن المسلمين هناك أيضا يتسمون بهذه الصفات! والآن لديك هذا السؤال: لماذا اتصف عرب بلاد الشام بهذه الصفات، في حين غلبت السمرة والشعر الأسود على عرب الجنوب؟ لماذا نجد العراق يعاني من الفساد والمحن.. هل هي نقمة من السماء، أم هي نتيجة للحكم الأجنبي عبر القرون، أم بسبب الخلطة العرقية والطائفية للشعب، أم بسبب ما قيل عنهم من الشقاق والنفاق؟ ما العوامل الطبيعية والمناخية والتاريخية التي تعلّم الناس الفساد والشقاق؟

وهذا ما أقوله، هذه الزاوية ليست جدولا للحقائق والمعارف. وسبق أن حذرت من أخذها كمصدر. إنها زاوية ساخرة تتحدى القارئ، وتستفزه للتفكير فيما سمع وسلم به. تدعوه لاستعمال العقل والتحليل العلمي وإدراك أوجه النظر المختلفة للموضوع ذاته. وهذه مهمة صعبة. فكثيرا ما وجدت مواطنا ما إن يصيبه السرطان حتى تسرع زوجته للتفكير بالعفاريت والسحر وعين الحسود التي تسببت به، وقلما تتذكر السجائر التي دخنها. حتى المثقفون منا لا تفلس حكومتهم إلا وأرجعوا إفلاسها لمؤامرة استعمارية، وهي النسخة الحديثة من دنيا الخرافات.