تراجع أدب السلوك الاجتماعي

TT

يقتحم الشاب المنزل. يطارد ساكنيه الآمنين بسكين، من غرفة إلى غرفة. يقتل الساكن العجوز. وزوجته. وحفيدتيه الصغيرتين. يمثل بجثثهم. ثم يمسح سكينه. يغادر كأن شيئا لم يكن.

لم نعرف، بعد، ملابسات وأسباب جريمة ارتكبت، كما يبدو، عن سابق تصور وتصميم. من حسن حظ العدالة أنها ألقت القبض سريعا على المتهم. عندما أتى به رجال الأمن إلى مسرح الجريمة، ليمثل كيف ارتكب فعلته، انقض عليه سكان القرية. انتزعوه من أيدي رجال الأمن! أوسعوه ضربا. ذبحوه. أوثقوا جثته إلى سيارة. سحلوه في الشارع. ثم علقوا جثته على عمود النور في ساحة القرية. الجريمة دنيئة. لا شك أن القاتل رجل وغد. لكن الجريمة الفردية استكملت بجريمة جماعية. قرويون بسطاء استفزتهم بشاعة الجريمة. فأسندوا إلى أنفسهم محاسبة المتهم بالنيابة عن القانون وبالوكالة عن القضاء. في لحظة انفلات غاضب للضمير الاجتماعي، باتوا هم أيضا، في نظر القانون، جناة عن سابق تصور وتصميم. لأن المتهم مصري والمنتقمين لبنانيون، فقد نشأت أزمة دبلوماسية نفخ فيها الإعلاميون. اعتذر وزير العدل اللبناني لمصر. لم يكف الاعتذار. نصب الإعلاميون هنا وهناك أنفسهم قضاة. طالب بعضهم بتسليم المتهمين إلى مصر، لمحاكمتهم أمام القضاء المصري. انتصر إعلاميون آخرون لمواطنيهم القرويين. اعتذروا عنهم بحجة فداحة جريمة القاتل.

في ظروف كهذه بالغة الحساسية والتعقيد، تغدو مهمة الإعلام الجاد صعبة في تقديم رؤية، من دون انحياز، إلى قارئ حائر. رؤية أكثر هدوءا وشمولا، حتى لو لم تعجب المنفعلين. صحيح وسليم قول القائلين إنه كان على الأمن اللبناني أن يتخذ احتياطات أمنية أشد، عندما اعتزم إحضار المتهم إلى مسرح الجريمة. في لبنان أمن وقضاء. لكن الإرادة السياسية ضعيفة. ليس هناك تصميم على الحسم مع المخالفين للقانون، أو المتمردين عليه. حسمت الدولة في «مخيم نهر البارد». لم تحسم في قرية كترمايا.

لا أريد أن أقسو أكثر على الدولة. عينها بصيرة. ويدها قصيرة. فن التسوية في لبنان هو القانون الذي يختلف عن القوانين. تعودت الدولة أن تلجأ إلى التسوية، تفاديا لما هو أعظم. الأعظم أن تنقلب الأزمة إلى مشكلة طائفية مع دولة الطوائف. بارود. اهربوا.

برمت الدولة شاربها إلى فوق. ثم أسدلته على فمها المطبق، عندما برم مختار القرية شاربه متحديا الدولة. تصور، عزيزي القارئ! عمدة القرية يستدعي سكانها بمذياع المسجد، للنزول إلى الشارع. لقطع الطريق العام، بعدما تجرأت العدالة. واعتقلت ثلاثة قرويين ظهروا على الشاشة، وهم يسحلون الجثة. ثم يعلقونها على عمود النور.

أفرجت الدولة عن القرويين. آه! العدالة متقاعسة. ليس في لبنان وحده. القضاء العربي في حاجة إلى إصلاح. القضاء يحتاج إلى الاستقلالية. النزاهة. إلى قوانين جديدة. إلى إجراءات تقاض أسرع وأعدل. أخذ القرويون بأيديهم تطبيق القانون، خوفا من بطء سير العدالة. أو من المداخلات والوساطات، لإنقاذ المتهم، أو لتخفيف الحكم عليه.

أذهب إلى أبعد من ذلك، فأضيف بأن المواطن العربي بحاجة إلى ثقافة قانونية. إلى معرفة بإجراءات التحقيق. ما له وما عليه، إذا تم توقيفه أو اعتقاله. لو كان قرويو كترمايا يعرفون، ربما لامتنع أكثرهم عن المشاركة في قتل المتهم. أعتقد أن الإعلام المحلي مقصر في تعريف وتبصير المواطن بحقوقه وواجباته القضائية والقانونية.

الأمر لا يتعلق فحسب بالقانون والقضاء. الدولة التي تصدِّر الأيدي العاملة. وهي هنا مصر والسودان وسورية ولبنان والأردن، عليها تعريف مواطنيها المهاجرين، مسبقا قبل السفر، بأحوال ومزاجية البلد المستورد للعمالة. تبين أن المتهم في جريمة كترمايا مقيم في لبنان، من دون أوراق إقامة وعمل. لا أدري كيف اتهم سابقا بجريمة اغتصاب. ثم أفرج عنه. ولم يتم، على الأقل، ترحيله.

كذلك، فالدول العربية المضيفة للعمالة العربية مطالبة بأن لا تعتبرها عمالة أجنبية. للعربي على العربي حق الضيافة. حق احترام كبرياء وكرامة الشقيق للشقيق، بصرف النظر عن السياسة. للتذكير، السعودية وسائر دول الخليج، لم تطرد عاملا واحدا من أصل مليون عامل مصري. عندما عقد أنور السادات صلح الكامب. وقاطع العرب. لا بد من تخفيف إجراءات الإقامة. لا مصادرة لجواز السفر. لا إلغاء لترخيص العمل، إذا اختلف العامل مع رب العمل. لا تأخير في دفع رواتب العاملين. لا تمكين لمكاتب استيراد العمال، من التحكم في حياة وعيش الملايين. أيضا، تدهشني المرأة العربية. تبدو أقسى من الرجل. معظم العاملات والخادمات الآسيويات آتيات في سن المراهقة. هن بحاجة إلى أم حانية في الغربة.

من زاوية مقابلة، استيراد العمالة الآسيوية بالملايين خطر على عروبة الانتماء. دعوة مغرية لممارسة الكسل. أسكن باريس منذ 34 سنة. لا أذهب إلى الشانزليزيه في الصيف. كي لا أرى ناقلات النفط الضخمة. كدست المرأة العربية الزائرة كتلا هائلة من اللحم والشحم على جسدها. أطفالها أيضا يعانون من سمنة زائدة. فهم لا يخرجون من موائد الـ«فاست فود» الأميركية. ربة البيت تترك للفلبين وسري لانكا تربية الأولاد. ينشأ الأطفال والشباب بلا معرفة باللغة العربية. لا في البيت. لا في المدرسة. لا في التلفزيون والإنترنت. تفتر صلة الطفل والشاب بالوطن. بالمجتمع. بالناس، عندما يفقد صلته بلغته وثقافة أمته. وهكذا، فمشكلة هجرة العرب إلى العرب ليست فحسب مشكلة عمالية. هي إشكالية ذات وجوه متعددة. إشكالية تندرج في صميم السلوك الاجتماعي للأمة العربية. تدهور أدب التعامل الاجتماعي ظاهرة عالمية. فوضى اجتماعية تعكسها الفوضى السياسية، على تصرف الأجيال الجديدة في البيت. في الشارع. في المدرسة. في المكتب.

غابت التربية السليمة في البيت. توارت العلاقة الحميمة بين الآباء والأبناء. في المدرسة، لا يتلقى الطالب العربي درسا في أدب السلوك الاجتماعي. في احترام الآخر. الدولة لا مبالية. نظام الوصاية الصارم يغري الشاب بالتمرد. لا سيما عندما يخيب الأمل في العثور على عمل. واليأس مع الفقر يفتح الباب أمام الجريمة.

في هذه الفوضى العارمة، يغيب الضمير الاجتماعي. هذه القوة الهائلة غير المنظورة هي التي تحدو بالأفراد، إلى الالتزام بالتضامن والتكافل في المجتمع. الضمير الاجتماعي أسمى من القانون. أقوى من الأخلاق في ضبط سلوك الناس. بل هو النبل الذي يرسم حدود التعامل والتبادل بينهم. عندما يصاب الضمير الاجتماعي بالتلف، تتفكك العلاقة الاجتماعية الحميمة. حتى الجريمة تغدو سهلة على مرتكبها. بتنا نسمع. نرى جرائم فردية مروعة تجتاح عالما، يبدو أنه فقد كثيرا من إنسانيته وضميره الاجتماعي الرادع.

الرائد مروان الرافعي الذي جاء بالمتهم إلى مسرح الجريمة في كترمايا، لا يعرف شيئا عن علم النفس. لا يعرف أن سلوك الفرد غير سلوك الجمهور الغاضب. علق الأميركيون البيض آخر أرقائهم السود، على أشجار وأعمدة النور في نيويورك. ثم ذهبوا إلى الحرب العالمية الأولى، ليستأنفوا القتل. تأخر جمهور كترمايا 96 سنة عن تقليد جمهور نيويورك.