بشار التنموي.. ونجاد النووي

TT

في الوقت الذي يبدو فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما مصمما على إنجاز بالنسبة إلى الموضوع الفلسطيني، يغنيه عن خيار الحرب وويلاتها على إيران، ويضمن من خلاله الطمأنينة على صعيد عدم اهتزاز العلاقات مع العرب والمسلمين، وهي علاقات أرادها منذ الشهر الثاني لتسلمه مقاليد الرئاسة في الولايات المتحدة.. في الوقت نفسه يتواصل ماراثون التحدي الإيراني للإدارة الأميركية على أكثر من جبهة، حيث نجد الرئيس محمود أحمدي نجاد لا يوظف على النحو المأمول والمعقول إطلالته من على منبر الأمم المتحدة فيقول من الكلام ما يحقق القبول به، وفي الوقت نفسه يضع الصديق السوري أمام إحراجات لا تتناسب مع تطلعات الرئيس بشار الأسد إلى استكمال المصالحة باللقاء مع الرئيس حسني مبارك، وبالتأكيد للذين يزورونه من المسؤولين الأميركيين والأوروبيين.

إن ما تسعى إليه سورية للسنوات العشر المقبلة هو خوض غمار تنمية شاملة من بين برامجها التنقيب عن مزيد من النفط والغاز، فضلا عن تنشيط السياحة وتحفيز المستثمرين العرب على إنجاز المزيد من المشاريع في سورية.

ومن مظاهر التوجهات السورية، التي نشير إليها على سبيل المثال لا الحصر، أن وزارة السياحة السورية طرحت خلال «ملتقى سوق الاستثمار السياحي الدولي» يوم الثلاثاء 27 أبريل (نيسان) 2010 عشرات المشاريع للاستثمار السياحي داخل بعض المدن وفي المناطق الساحلية، وهذا بهدف رفع عدد السياح العرب والأجانب خلال ثلاث سنوات من حوالي سبعة ملايين عام 2009 - 2010 إلى 12 مليونا. وهنا نشير إلى أهمية التحسن الذي تشهده ثلاث جبهات سياحية بفعل تحسين مسار علاقات من جهة (لبنان أهمها) والانتقال بالعلاقة السورية - التركية إلى حالة من اليسر وصلت إلى حد إلغاء التأشيرات بين سورية وتركيا، وبذلك باتت السياحة الأوروبية، وبالسيارات، متيسرة، وتشمل أربع دول متجاورة حافلة بالآثار والمناخ الطيب، وهي تركيا وسورية والأردن ولبنان، وهذا في انتظار تطوير شبكة السكة الحديد التي يمكن من خلالها للقطارات اختصار مشقة السفر بالسيارات.

وإلى ذلك، فإن مساحة الازدهار السياحي ستتسع عندما يقرر أهل الحكم في العراق أن من واجبهم طيّ صفحة التحديات والبدء بصفحة التنمية والسياحة، وتوظيف الثروة النفطية في الأمور الصحيحة، والنأي عن التشنجات المذهبية التي لا تفرز سوى الإرهاب والدم، مع أن في العراق من الآثار والحضارة والمناظر الجميلة في الشمال ما يُغري الأجانب بزيارة بلاد الرافدين للسياحة وليس للاحتلال، ويغريهم أكثر أنهم من خلال رحلة واحدة قادرون على زيارة خمس دول دفعة واحدة، هي كما سبق وذكرنا، تركيا والأردن وسورية ولبنان، إضافة إلى العراق بعد أن يستعيد أهل الحكم وعيهم، ومستقبلا إيران بعد أن يطوي أهل الحكم فيها صفحة التطلعات إلى امتلاك السلاح النووي، وبذلك ينتهي حال إيران مثل حال كوريا الشمالية، دولة تتخبط في دهاليز العزلة الدولية، ولا تجد منافذ لها سوى علاقة لا جدوى منها، إما مع فنزويلا شافيز أو شافيز فنزويلا، ومع كوريا كيم جونغ إيل أو جونغ إيل كوريا، الذي زار الصين يوم الاثنين 3 مايو (أيار) 2010 عن طريق البر وبواسطة قطاره المصفح الذي يتنقل فيه، كونه يخشى ركوب الطائرات.

لكن كيف ستتم زيارة كيم الابن إلى إيران وهو الذي لا يسافر سوى بالقطار مزودا بخمسين سيارة «ليموزين» خاصة بالزعيم، على نحو زيارته الجديدة إلى الصين، وهي الأولى منذ أربع سنوات، لكنه سبق وقام حتى عام 2000 بأربع زيارات ثم توقَّف عن السفر نتيجة إصابته عام 2008 بجلطة دماغية.

خلاصة القول: إن استدارة إيران القوية إلى التجاوب مع التوجه الدولي ليس نقطة ضعف، بل العكس إنه نقطة قوة. ونقول ذلك كي لا ينتهي أمر الجمهورية الإسلامية، نتيجة المزيد من العقوبات عليها، إلى أن حالها مثل حال كوريا الشمالية، وهذا مصير لا نتمناه لإخواننا الإيرانيين، وبالذات لا يتمناه، كما نتصور، الصديق التاريخي الذي هو الحاكم السوري. ودليلنا على ذلك أن الرئيس بشار يواصل عملية تنقية شوائب داخل الأجهزة الحكومية، فضلا عن تنظيم قانون العمل في القطاع الخاص، يحدد ساعات العمل الأسبوعية بـ 48 ساعة. كما يواصل فتْح النوافذ على المجتمع الدولي ويلقى الترحيب تلو الترحيب. وهذا يعزز، على نحو ما أسلفنا، البرنامج التنموي الذي يخوضه بهدف جذْب استثمارات، وبالذات من السعودية وبعض دول الخليج العربي (وليس الفارسي بالطبع) ببلايين الدولارات، ومن دون أن تستوقفه تحرشات بعض الأطراف داخل مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة، ودون أن يثنيه عن التوجه التنموي أن الصديق الإيراني وفي كل مرة يرتفع منسوب الإقبال العربي والدولي على سورية، وبحيث إن الأجندة البشَّارية حافلة دائما بمواعيد مع مبعوثين ورسميين دوليين، آخرهم وليس أخيرهم الرئيس الروسي ميدفيديف الذي تأتي زيارته، وهي الأولى لرئيس روسي إلى سورية، ردا على الزيارة التي قام بها الرئيس بشَّار إلى موسكو قبل خمس سنوات. وربما تُغري سياسة الانفتاح، التي يقوم بها الرئيس بشَّار، الحكومة الروسية، التي بات لسفنها وأسطولها الحربي مساحة رحبة في ميناء طرطوس ومن دون أن يشوش ذلك على خطة استثمار الشاطئ السوري سياحيا، بشطب الجزء الأكبر من ديون روسيا الموروثة في معظمها من العهد السوفياتي وعلى نحو ما فعلت الدولة الأوروبية المتواضعة بلغاريا، التي أبلغ رئيس وزرائها بويكو بوريسوف الرئيس بشار الذي استقبله في دمشق يوم الجمعة 25 أبريل 2010 قرار الحكومة البلغارية شطب 54 مليون دولار من أصل الدين العام البالغ 74 مليونا، على أن تتم جدولة تسديد المبلغ المتبقي (17 مليون دولار)، مما يعني عمليا أن سورية ماضية في تسديد الديون الأجنبية عليها، وهنا تلأتي أهمية العلاقات السعودية والخليج العربي.

وكلما توازنت علاقة سورية مع إيران كانت الاستثمارات الخليجية وربما الودائع على نحو ما حصل مع لبنان على درجة من اليسر. وعندما تبني شخصية خليجية رفيعة قصرا منيفا لا نظير له على تلة تشرف على كل جهات دمشق، فمن الطبيعي على نحو التقاليد الخليجية أن يبادر أهل الاقتدار المالي إلى مجاورة كُبرائهم وذلك ببناء دارات واسعة حول القصر الكبير.

ونشير هنا إلى أنه عندما تشطب بلغاريا 54 مليون دولار من ديونها على سورية أملا في الفوز لاحقا بعقود لإنشاء مترو الأنفاق في دمشق وبناء منشآت للطاقة، فمن تحصيل الحاصل أن يتكرم سيدا الحكم الروسي ميدفيديف - بوتين ويشطبا النسبة الكبرى من الديون على سورية البشَّارية التي أعطت بحريتيهما المدنية والحربية ملاذا دائما في مياه ميناء طرطوس الدافئة، وهو مكسب له أهمية بالنسبة إلى الدولة الروسية، ومثل المكسب الذي نالته الدولة السوفياتية في الستينات من مصر عبد الناصر. ولولا هذا الرسو الآمن والدافئ للأساطيل والسفن الحربية والمدنية السوفياتية في المياه المصرية الناصرية لكانت هذه الأساطيل لا تجد غير مراسيها على شواطئ البحر الأسود، أو راسية فوق مياه البحار.

وقد يجوز للبعض أن يتساءل: لماذا إذن هذا التذبذب في الموقف الأميركي، ونبْش ما هو قديم، وتجديد العقوبات التي تتعارض مع تصريحات يدلي بها زوار دمشق من مسؤولين أميركيين يمثلون الحزبين، إذا كان التوجه السوري نحو التنمية والتنقيب عن النفط ورفْع إنتاج الغاز ومجاراة مصر وتونس والمغرب ولبنان في موضوع الاستثمار السياحي والانفتاح داخليا مصرفيا وإعلاميا وديمقراطيا، والتجاوب مع الرغبات العربية والدولية في صياغة علاقة جوار مُتفهم مع لبنان، وهو أمر يتحقق بالتدرج وإلى درجة أن حفلة الاستقبال الأولى التي أقامها السفير السوري في ظل العلاقات الدبلوماسية المتبَادلة جاءت من نوع الحفلات التي كان يقيمها السفراء العراقيون لدى الكويت قبل الغزوة الصدَّامية، بمعنى أن كل الأطياف تتدافع لتلبية الدعوات ومن دون أن يعني ذلك أن المشاركة عفوية؛ لأن ما في القلوب هو غير ما في قانون المصالح الشخصية الضيقة.

ولماذا المماحكة في موضوع السفير الأميركي بعد تعيينه، مع ملاحظة أنه تمّ اختيار الدبلوماسي المُحنك والمستشرق، إذا جاز التوصيف، روبرت ستيفن فورد ليكون السفير الذي يتقن العربية والملم بالتركية وربما هو مُلم بالفارسية، فلا يحتاج إلى مترجمين عندما يلتقي المسؤولين السوريين، وبالذات عندما تكون هنالك لقاءات ثنائية تقوم على التبلغ والتبليغ.. أو العكس.

وإذا أُجيز لنا الإجابة فإن الإدارة الأميركية تريد من الرئيس بشَّار اختصار العلاقة مع الحكم الإيراني، مع أنها تشهد بعض التقلص. ومن هنا فإنه عندما يباغت الرئيس محمود أحمدي نجاد الصديق السوري الرئيس بشار باتصال، وتكون مفرداته المُذاعة من جانب وسائل الإعلام الإيرانية شبه محجوبة من جانب وسائل الإعلام السورية، توحي بأن التوجه الإيراني/ السوري استراتيجي وغير قابل للتعديل، ثم يأتي محمد رضا رحيمي نائب الرئيس نجاد إلى دمشق يوم الخميس 29 أبريل 2010 ليقول للرئيس بشار إننا سننشئ معكم وبعض دول المنطقة تكتلا اقتصاديا، وسنرفع التبادل التجاري معكم إلى خمسة بلايين دولار بدل ثلاثمائة وخمسين مليون دولار حاليا، فهذا تقرأه إدارة الرئيس أوباما على أن الموقف السوري في الاتجاه الدولي غير محسوم؛ ولذا استوجبت المسألة تلك الملاحظة بالغة الخشونة، وهي أن سورية تزود حزب الله بصواريخ سكود وكأنما هذه الصواريخ ليست منصوبة في قواعد المقاومة في جنوب لبنان منذ سنوات، وإلا فكيف كان سيد المقاومة حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله يطلق، ومن قبْل النبش الأميركي - الإسرائيلي لموضوع الصواريخ بمدة طويلة، وكذلك قبل قرار تعيين السفير الأميركي، تحذيره بأن من يعتد فسيكون الرد عليه بالمثل، مدينة مقابل مدينة، ومطار مقابل مطار، بل وتل أبيب مقابل بيروت.. وهكذا.

ونصل في ضوء ذلك إلى القول: إن الرئيس بشار التنموي هو الآن أمام معضلة الرئيس نجاد النووي، وأن كل الافتراءات الأميركية تتمحور حول أن الضربة الموجعة البديلة عن المواجهة الحربية لإيران هي في إبعاد بشار التنموي عن نجاد النووي. وهذا ليس بالأمر السهل حصوله إذا كانت اللعبة الأميركية - الإسرائيلية ترى تقديم التسوية الفلسطينية - الإسرائيلية على التسوية السورية – الإسرائيلية، وبذلك تتأخر استعادة الجولان على نحو استعادة سيناء من قبل.. هذا إذا لم يحدث للجولان ما سبق وحدث للإسكندرون. وهنا يكمن اختبار النوايا والإرادات.