الحق التاريخي في المياه أهم القوانين

TT

أزمة جديدة هي الأخطر في المنطقة، حيث تهدد مصالح مصر والسودان، وكانا في الأصل أمة واحدة بادرت بتأسيس جامعة الدول العربية في أنشاص عام 1946.

في خطوة غير مسبوقة، خرقت سبع بلدان في أعالي النيل معاهدة النهر 1929 بتجاهل مصر، لتتفق على إقامة مشاريع نهرية تؤثر على ما شهده الوادي المصري السوداني من تدفق لمياه النيل لـ14 مليون سنة.

لا فائدة من تذكر وقوع اللوم على شباب العسكر قليلي الخبرة بتمزيقهم أمة وادي النيل ثم التفريط في المصالح القومية بتجاهل ثوابت معاهدة 1929 بتوقيع اتفاقية 1959، سوى الاستفادة بعدم تكرار الأخطاء.

قانونيا، المعاهدة أقوى من الاتفاقية؛ لديمومة الأولى وديناميكية الثانية وقابليتها للتعديل والتغيير؛ وهو ما تجاهله العسكر مدعين فهمهم «لكل حاجة» من التاريخ إلى السياسة والقانون (رغم عدم إتقانهم لمهنتهم الأصلية، وهي الذود عن مصالح الأمة في ميدان القتال حسب القسم الذي أدوه يوم التخرج من المدرسة الحربية).

أخطأوا بإدخالهم سابقة ترقيم وتقنين حصص الاستهلاك في اتفاقية عام 1959. ومقارنة بذلك تتضح براعة المحامين المصريين وحلفائهم البريطانيين في صياغة معاهدة 1929 التي صمم خطوطها السياسية العريضة رجل الدولة الداهية السير ونستون تشرتشل (الذي يعود إليه الفضل الأول تاريخيا في زعامة العالم الحر لدحر النازية والفاشية لصالح الديمقراطية وحرية الإنسان، يوم وقف وحده وظهره للحائط عقب هزيمة جيشه في دنكرك؛ فتمسك بالمبادئ العليا ورفض مصافحة اليد النازية الملوثة بالدماء، ونجح في قيادة قوى الحرية والديمقراطية للصمود ثم النصر 1945). هذا السياسي الداهية الذي أثبت التاريخ دائما مدى صحة تقديره ونظرته المستقبلية في كل ما توقعه بلا استثناء، أعطى تعليماته للمحامين المصريين والبريطانيين بتصميم معاهدة لحوض النيل في نهاية العشرينات من القرن الماضي حسب ما تصوره في كتاب «حرب النهر» الذي طور مسودته الأولى من نهاية القرن التاسع عشر، لينقحها عام 1911 عن النيل، مصورا النهر العظيم كشجرة ضخمة جذورها في وسط أفريقيا والحبشة، وتاج الشجرة، أي الأغصان المورقة الخضراء والثمار في مصر.

صحيح أن الجذور تمد الشجرة بالمياه، لكن دون المواد الغذائية التي تعدها الأوراق الخضراء بشكل أرقى حيويا وأكثر تعقيدا كيميائيا وبيولوجيا وتوصله للجذور، لا يمكن للأخيرة أن تحيا بلا فسيولوجية الغذاء التي توفرها الأوراق الخضراء من الشمال.

ببساطة، تمت صياغة بنود المعاهدة الملزمة قانونيا بضرورة الحفاظ على حياة النهر بضمان السيادة للقمة الخضراء للشجرة، أي أمة وادي النيل (مصر والسودان) باعتبار الحوض شجرة متكاملة بما أسميه «بيوسياسيا»، أي وحدة سياسة عضوية.

ولذا لطم المحامون المصريون من الجيل القديم (جيل مصطفى كامل باشا) خدودهم عند قراءة البنود الساذجة الهزلية لاتفاقية 1959، لأنها تناولت «حصصا» من المياه متجاهلة الصورة الأكبر والأكثر شمولية وتعقيدا التي تناولتها معاهدة 1929.

ولأن المعاهدة أكثر إلزاما وربطا قانونيا من الاتفاقيات، فأنا أجادل من هذا المنبر المرموق بإعادة النظر في اتفاقيات 1959، وما تلاها لاستئصال أي بند يناقض معاهدة 1929 (وأرجو ألا يصيح أحد من الجيل الجديد بغوغائية سطحية تدعو للرثاء بأن المعاهدة «إرث استعماري»، فتشرتشل كان في القارب المصري يجدف باتجاه مصلحة مشتركة، وحكمة الرجل لم تخطئ في واقعة واحدة حتى الآن).

المقلق أن ساسة القاهرة والخرطوم الآن، بعد استبعادهما من جانب البلدان الحديثة التأسيس في أعالي النيل، يعقدون الاجتماعات وندوات المناقشة (والتي يتجاهلها سفراء بلدان أعالي النيل رغم دعوتهم إليها، فيما يشبه إهانات دبلوماسية واضحة)؛ مع دبلوماسيين ومثقفين مصريين وسودانيين؛ يؤكدون استبعادهم لأي استخدام للقوة.. فقط المناقشات والدبلوماسية الهادئة!

ولا أملك هنا إلا استعارة صيحة ملك الدراما المصرية الأشهر يوسف بك وهبي «يا للهول.. يا للهول.. يا للهول».

فأي تلميذ في السنة الأولى في مدرسة العلوم السياسية يخبرك بأن السياسي الناجح (أو الذي يريد أن يكون لدبلوماسيته أثر، سواء عند الخصوم والحلفاء) لا يستبعد أبدا أي خيار أمامه، ابتداء من الدعم الاقتصادي (أي الجزرة) وحتى العمل العسكري (العصا الغليظة) مرورا بخيارات متعددة كسحب السفراء، والمقاطعة، وإنهاء التعاون، أو فرض الحصار الاقتصادي المدمر. فلماذا يستبعد ساسة مصر والسودان الخيارات الموجعة للخصوم مؤكدين فقط استخدامهم للجزرات؟

سؤال يهرش تلميذ سنة أولى تاريخ رأسه أمامه في حيرة ساذجة!

في كتابي الصادر عام 1993 بلندن ونيويورك بالإنجليزية عن حروب المياه المتوقعة في منطقة الشرق الأوسط:

Water Wars: Coming Conflicts in the Middle East;

London, Gollancz, 1993

(حذرت قبل 17 عاما من هذه الكارثة التي تحيق بمصر والسودان فكان نصيب التحذير قدر زرقاء اليمامة)، وتضمن الكتاب مقابلات مع مسؤولين عسكريين سابقين، منهم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون، فأكد أن أحد أهم أسباب حرب 1967 كانت المياه. وأضاف أن مؤتمر قمة عمان 1964 وتهديد الرئيس المصري الراحل الكولونيل جمال عبد الناصر بتحويل رافد اليرموك بعيدا عن بحيرة طبرية أدى بالقيادة العسكرية الإسرائيلية للإعداد لحرب لاحتلال الجولان وكان وقوعها «مسألة وقت». مراجعة الوثائق البريطانية، ووثائق الأمم المتحدة والخارجية الروسية ومقابلات مع الدبلوماسي الراحل محمود رياض، أوضحت أن مناوشات سورية - إسرائيلية، نجمت عن قصف الإسرائيليين لجرافات سورية تعمل شمال البحيرة لتحويل النهر، تطورت إلى حرب 1967.

وعند إثارة مسألة القانون الدولي، قال كل من شارون ورافائيل ايتان (رئيس أركان الجيش الإسرائيلي المتقاعد) إن المحامين نصحاهما بأن حماية حق الاستهلاك التاريخي للمياه، يمنح شرعية اللجوء للحرب لحماية المياه القادمة لاستهلاك الأهالي كمصدر حيوي لا يمكن الاستغناء عنه.

البحث المطول مع وزير الخارجية المصري السابق، والسكرتير العام السابق للأمم المتحدة الدكتور بطرس بطرس غالي، وهو شيخ المحامين الدوليين، ومع أعضاء من لجنة القانون الدولي، أثبت أن حق الاستخدام التاريخي وحماية الكمية المستهلكة تاريخيا من المياه، يتقدم على أي قانون أو اتفاقيات ويتيح لدولة أسفل النهر استخدام كل الوسائل المتاحة لديها لحماية هذا الحق.

أنا لا أدق هنا طبول الحرب، فهذا الخيار آخر ما يريده أي عاقل، لكن استبعاد خيارات تلوح باتخاذ الإجراء الحاسم أمام من استبعدوا مصر والسودان من رسم خطط تؤثر على ما تعوده وادي النيل من مياه تتدفق لسبعة آلاف عام ليس إشارة دبلوماسية خاطئة فحسب، بل تفريط لا يغتفر في حق أمة وادي النيل، بشعبيها المصري والسوداني، وربما يدفعهما الخطر التاريخي إلى إصلاح ما أفسده العسكر بالعودة إلى أمة متماسكة تتوحد شعبا وجيشا للدفاع عن أهم المصالح التاريخية على الإطلاق.