أنقرة وأثينا.. هل تكفي زيارة واحدة؟

TT

العداء التاريخي بين الأتراك واليونان، حاول الغرب تخفيفه من خلال أكثر من حملة سياسية ودبلوماسية متزامنة في اتجاه أنقرة وأثينا، غايتها إشراكهما في مشاريعه وبرامجه التكتلية الإقليمية والعالمية، وجعلهما أهم قلاع الصمود والتصدي في المحور الجنوبي ضد الخصم السوفياتي. النقلة الأولى جاءت أولا من خلال قبولهما في المجلس الأوروبي عام 1949، ثم إلحاقهما بمنظمة حلف شمال الأطلسي بعد 3 سنوات، لتكون الفرصة الأكبر قبول طلب عضويتيهما في الاتحاد الأوروبي عام 1959.

قد يكون الغرب نجح من خلال سياسته هذه في إرجاء ونزع فتيل أكثر من حرب وانفجار بين البلدين، لكنه فشل - بالتأكيد - في إزالة أسباب الخلافات والتوتر التي تتقدمها المسألة القبرصية والسيادة في بحر إيجه ومشكلات الأقليات في البلدين. إعلان العضوية اليونانية الكاملة داخل المجموعة الأوروبية عام 1981 في الوقت الذي كانت فيه أنقرة تبحث سبل الخروج من مغطس انقلابها العسكري الذي قاده كنعان أفرين، ثم قبول طلب العضوية لقبرص اليونانية عام 1991 باسم الجزيرة بأكملها وتجاهل وجود دولة قبرص الشمالية، كان يترجم يوميا استفزازا وتهديدات متبادلة في سماء بحر إيجه وأمام جزر اليونان القريبة من الشواطئ التركية.

السياسي المخضرم جورج باباندريو واليساري إسماعيل جيم وزير الخارجية التركي الأسبق أطلقا في مطلع الألفية مشروع تقارب وانفتاح ثقافي اجتماعي علمي واسع تحت عنوان «دبلوماسية الزلازل»، بعد تعرض البلدين لكارثتين طبيعيتين قربتهما إنسانيا، لكنه سرعان ما تبخر عام 2004 بعدما سجلت اليونان وحليفتها قبرص اليونانية كثيرا من الأهداف الاستراتيجية في مرمى أنقرة؛ تقدمها:

* منح العضوية الكاملة للقسم الجنوبي من الجزيرة في المجموعة الأوروبية بعد 13 عاما فقط على تقديم الطلب متجاهلين الجانب التركي من الجزيرة الذي أعلن استقلاليته وولادة دولته عام 1983 لكن تركيا كانت الدولة الوحيدة التي اعترفت بها رسميا بعد قرار مجلس الأمن الدولي التحذيري بهذا الشأن.

* فشل المجتمع الدولي في إقناع قبرص اليونانية بقبول مشروع كوفي أنان لحل الأزمة القبرصية بعد استفتاء عام جرى في جانبي الجزيرة قبله أتراكها بنسبة عالية ورفضه القبارصة اليونان تاركين لفكوشة وأنقرة في حالة من الذهول وخيبة الأمل.

* قرار حكومة قبرص اليونانية الشروع في حملة استراتيجية كبيرة بتشجيع من الشريك الأوروبي وغطاء إقليمي واسع هي التنقيب عن النفط في شرق المتوسط متجاهلة الرفض والتهديدات التركية التي دفعت أنقرة لإعلان الاستنفار الشامل قبل 3 أعوام على جبهات سياسية ودبلوماسية كانت نقطة الحسم فيها تحريك قواتها البحرية لإقناع اليونان وقبرص اليونانية أنها جادة في رفضها هذا حتى لو كانت الحرب هي الثمن.

الأزمة الاقتصادية المالية الأخيرة في اليونان حركت رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ليقود جيشا من السياسيين ورجال الأعمال والإعلاميين لزيارة أثينا مؤخرا، مؤكدا أنه لن يعمل بالمثل القائل «مصائب قوم عند قوم فوائد». وهو، على الرغم من ترحيب باباندريو الذي قال إنه يريد أن يكمل ما كان قد بدأه قبل عشرة أعوام من مصالحة تاريخية حقيقية مع أنقرة، فإن مسارعة القوميين اليونانيين المتشددين لرفض يد الدعم التي مدها أردوغان والمسارعة إلى إضرام النار في الأعلام التركية، يعرف أن مهمته ليست بمثل هذه البساطة والسهولة.

«صفر مشكلات مع الجيران» شعار وزير الخارجية التركي داوود أوغلو الذي يتقدم بنجاح على أكثر من جبهة يحتاج إلى أكثر من زيارة وجلسة عمل وحوار بين أنقرة وأثينا. فاليونان وحليفتها قبرص اليونانية يتقدمان على تركيا بالنقاط مستفيدين من الدعم الأوروبي الاستراتيجي الكبير. ونقطة البداية في إطلاق المصالحة لا بد من أن تكون قبرص، خاصة بعد الانتخابات الأخيرة التي شهدها القسم الشمالي، حيث جاءت النتائج متعارضة مع سياسة الحوار التي بدأت بين طرفي النزاع قبل 6 سنوات بإشراف دولي، لكنها لم تسجل حتى الآن أي تقدم ملموس؛ فعاد القومي المتشدد درويش أوغلو تلميذ «المبعد» رؤوف دنكتاش لينتقم لأستاذه من محمد علي طلعت وليضع الجميع مجددا أمام خط البداية.

ما يعلن عن مبادرات متبادلة لخفض حجم الإنفاقات العسكرية وعقود تجارية واقتصادية بين البلدين قد تكون خطوة على طريق الألف ميل، لكنها لن تكون سوى معالجة سطحية أمام ثقل التاريخ المؤلم في علاقات البلدين الذي ينتظر عملية جراحية في العمق، من دون أن نهمل طبعا دخول كثير من القوى الدولية على خط النزاع ونجاحها في إبعاد أنقرة عن أثينا أكثر فأكثر، لصالح انتشارها وتمركزها الاستراتيجي على حساب المساهمة الحقيقية في فتح أبواب الحوار بينهما.