الصداقة مع الحكمة!

TT

يذكر عبد الحميد الثاني - آخر الخلفاء العثمانيين - في مذكراته التي ترجمها حفيده محمد حرب قضية مرت عليه أثناء خلافته حين افتتحت كلية الفلسفة في إسطنبول على عهده، فقامت مظاهرات حاشدة ومعارضات غير متوقعة على تلك الكلية التي تمارس التفلسف في مجتمعات التدين.. ففكر عبد الحميد بذكائه وقرر إلغاء تلك الكلية سيئة الذكر، وافتتاح كلية «الحكمة» التي تمارس العمل نفسه من دون ضوضاء!

عبد الحميد، بذكائه، استدعى تلك المفردة المحملة بالمفاهيم الإيجابية في التراث الإسلامي لتمارس العمل الفكري الحر الذي تمارسه الفلسفة المحايدة دون الخوض في جدل قائم على معاداة الأسماء.

ولم يكن اختيار كلمة «الحكمة» كبديل عن الفلسفة في حينها اعتباطيا.. بل لمعنى تاريخي، حيث حملت كلمة «الحكمة» العربية المعنى نفسه الذي أدته كلمة «الفلسفة» اليونانية.

فحين أراد العرب، في بداية استفادتهم من التراث اليوناني أول عهدهم بالترجمة، تقديم الفلسفة للعرب سموها «حكمة»، وكانت الترجمة الشائعة لكلمة الفيلسوف هي «محب الحكمة»، وعلى أثرها تولى «بيت الحكمة» دوره في عهد المأمون لتترجم المواد اليونانية والهندية والفارسية للعرب، والتي كانت الفلسفة (الحكمة) واحدة من أهم المجالات التي عملت عليها الترجمة، ولذلك سميت بالحكمة.

اختيار كلمة «الحكمة» من المترجمين الأوائل كان دقيقا ولماحا.. دقيقا لأن الحكمة نوع من التأمل في الأشياء بالدرجة الأولى التي تعطي انطباعا عميقا بقوة هذا الحكيم المتفلسف.. ولكن أولئك الذين جعلوا كلمة «الحكمة» كترجمة مقاربة للفلسفة يعرفون تلك الحمولات الدينية لكلمة الحكمة، بالتأكيد حين تحدث القرآن في مواضع كثيرة عن الحكمة. فعلى سبيل المثال يقول الله عز وجل في كتابه: «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ» ويقول: «وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» وفي آيتين أخريين: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» فعطف الحكمة على الكتاب.. ويذكر الكثير من المفسرين الرواد واللاحقين أن الحكمة هي السنة أو النبوة.. فها هي الحكمة في اللغة العربية تحمل معنيين افتعل فيهما اللاحقون تلك الخصومة التاريخية التي حاصرت التفلسف بسبب بعض معطياته، فهي تعني السنة والنبوة.. وفي السياق العربي الفكري تعني: الفلسفة.

ولعل أهم الأحداث المتعلقة بكلمة الفلسفة اليونانية هي وصف لقمان المذكور في القرآن بأنه فيلسوف طبقا للمرويات اليونانية، وهو نفسه الذي يسميه العرب حكيما، فهو الفيلسوف الحكيم. بل هو في رأي كثير من علماء الإسلام نبي. في صورة مبكرة جدا للصداقة التي عقدتها كلمة «الحكمة» بين أتباع الديانات والفلسفة، فهذا الحكيم حسب تعبير العرب والمسلمين هو الفيلسوف حسب رأي اليونانيين، وهو نفسه النبي حسب اختيار بعض علماء الإسلام. فلم تجد الحكمة المبكرة في فلسفتها مشكلة في التفلسف. ولم تتخل يوما عن حكمتها الدينية في أتباع النبوة.

في قرينة شبيهة ينقل الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» بأن الحكماء السبعة الذين أسسوا للفلسفة اليونانية وكان آخرهم أفلاطون كان أولهم وسيدهم «هرمس العظيم» والذي ينقل الشهرستاني حكاية بأن هرمس هذا هو النبي إدريس عليه السلام، ثم ينقل عنه حكمه وأقواله، وتؤكد المرويات عنه تعظيم حق الله سبحانه وتعالى والخضوع له وطاعته وتوحيده. لتكون بداية الحكمة الدينية، والفلسفة الدنيوية بهذا النبي (الفيلسوف).

وفي موضع آخر، يؤكد الشهرستاني أن أولئك الحكماء السبعة سادة الفلسفة اليونانية وروادها يقوم كلامهم في الإلهيات على توحيد الله وإحاطة علمه بالكائنات.. ثم يشتكي الفيلسوف الذكي الشهرستاني إغفال المتعلمين والكتاب لهؤلاء السادة الفلاسفة من الدراسة الإسلامية إلا «نكتة شاذة نادرة ربما اعترت على أبصارهم وأفكارهم وأشاروا إليها تزييفا» على حد تعبيره.

كل تلك الإشارات التاريخية حول «الحكمة» تقود إلى صداقة بين النبوة والسنة (المعنى الأول للحكمة في السياق العربي) من جهة، والفلسفة (المعنى الثاني لها) من جهة أخرى، وهي الكلمة نفسها التي استخدمها الفيلسوف ابن رشد للفلسفة. وكانت شخصية ابن رشد نفسه اتصالا نموذجيا يقدم الفقيه المجتهد صاحب «بداية المجتهد»، والفيلسوف المفكر صاحب «فصل المقال» و«تهافت التهافت» في قالب واحد.

الحكمة إذن، كأي مجال علمي، لا تصوغها مقولة واحدة. ولا يقوم عليها عقل واحد. بل اشتغلت عليها أجيال اختلفت ثقافة ودينا ومعطيات. وليس من حق أحد أن يحرم منها الناس. بحجة خصومة بعض دارسيها للنبوات. وليس من حق الناس أن ينسوا ولاء الحكمة (الفلسفة) للحكمة (النبوة والسنة).

* كاتب سعودي