دول أفريقيا تتمرد على مصر

TT

تواجه مصر الآن أكبر أزمة مصيرية تتعلق بوجودها، مع بروز تجمع من سبع دول أفريقية (دول منابع نهر النيل)، يطالب بإعادة النظر بالاتفاقيات الموقعة منذ عشرات السنين، من أجل إعادة اقتسام مياه النهر، وتغيير الحصص التي تنالها دول المصب «مصر والسودان» بحسب تلك الاتفاقيات.

ولا تعارض مصر البحث «الفني والاقتصادي» في ما يتعلق باستعمال المياه، ولكنها تعارض الدعوة إلى بحث «سياسي» يغير في الاتفاقيات المعقودة والمعتمدة منذ زمن طويل، في تنظيم شؤون المياه ومسؤوليات الدول بصدد ذلك.

ويجري منذ فترة زمنية تمتد لأعوام، بحث في قضايا النهر، ومشاريع مقترحة للاستفادة من مياهه، وكان آخرها اجتماع عقد في شرم الشيخ منتصف شهر أبريل (نيسان) 2010، ضم جميع دول المنبع والمصب، وبرزت فيه بوادر الأزمة الجديدة. وقد وصفت مصادر مصرية مطلعة بوادر بروز هذه الأزمة كما يلي: «كان الأمر هادئا، وقدم وزراء دول حوض النيل الشكر لمصر على ما تقدمه من معونات لهذه الدول، وظل الأمر هكذا حتى جاء الدور في الكلمات على الوزير التنزاني، الذي تحدث قائلا: نحن مجموعة المنبع السبع، وأنا المتحدث الرسمي باسمهم، قررنا فتح باب التوقيع في 4 مايو (أيار) 2010 على (اتفاقية الإطار المؤسسي والقانوني لمبادرة حوض النيل). وبعده قال المسؤول الإثيوبي: سنترك الباب مفتوحا لمن يرغب في التوقيع، وسنعطي مهلة سنة للتوقيع، وبعد التوقيع يفتح باب التفاوض حول النقاط المعلقة».

النقاط المعلقة التي تمت الإشارة إليها هنا هي الحقوق المصرية التي تتضمنها الاتفاقات الموقعة والمعمول بها، وهي الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل التي يرد ذكرها «الحقوق التاريخية» في الاتفاقيات، وترفض مصر بالطبع أن تكون هذه الحقوق المدونة خاضعة للتفاوض من جديد.

اعتبرت دول المنبع أن موقفها نهائي، وأنها لن تشارك في مفاوضات جديدة حول الموضوع المتعلق بـ«اتفاقية الإطار»، بينما أعلنت كل من مصر والسودان رفض موقف دول المنبع، ورفض التوقيع على اتفاقية ما لم تتضمن ثلاثة بنود:

أولا: استمرار العمل بالاتفاقيات السابقة التي تضمن حقوق مصر في مياه النيل، وهي اتفاقيات كثيرة ومتعددة.

ثانيا: ضرورة قيام دول المنبع بالإبلاغ المسبق لدول المصب عن أي مشروعات حول النهر تنوي تنفيذها، والحصول على موافقة مصر والسودان على هذه المشاريع، حسب بنود الاتفاقات الواضحة بهذا الصدد.

ثالثا: في حال إنشاء «مفوضية دول حوض النيل»، لا بد من نظام للتصويت يقوم على قاعدة الإجماع.

ولكن هناك موقفا شبه موحد لدى دول المنبع السبعة، يرفض هذا الموقف المصري - السوداني، ويعتبر أن الاتفاقات التي يتم الاستناد إليها هي اتفاقات «استعمارية» لأنها أنجزت ووقعت برعاية بريطانيا أثناء احتلالها لتلك المناطق، وهي تدعو إلى تغيير بنود تلك الاتفاقيات، أي تدعو إلى مفاوضات سياسية لا إلى مفاوضات فنية. ويزيد هذا طبعا من صعوبة الوضع. وتأكيدا لذلك قال المتحدث باسم حكومة إثيوبيا «رفضت البلدان السبعة الاتفاق السابق بين مصر وبريطانيا الاستعمارية». وقال رئيس أوغندا، يوري موسيفين إنه «لم يعد ممكنا أن تستمر مصر في احتكار استخدام مياه النيل.. وهذا الموقف الأناني لا بد من وضع حد له».

وبعد هذا الخلاف الحاد في شرم الشيخ، وبعد مضي شهر حسبما أعلن، تم في مدينة عنتيبي الأوغندية، التوقيع على اتفاقية الإطار التي تم الاتفاق على بنودها قبل عام بين دول المنبع السبع، بينما أعلنت كل من مصر والسودان رفض التوقيع على الاتفاق. وبذلك يكون الخلاف قد أصبح علنيا ورسميا، وهو يتخذ شكل المواجهة والتحدي من قبل دول المنبع، وبخاصة إثيوبيا، بينما تميل كل من مصر والسودان إلى مواصلة البحث والتفاوض لإيجاد مقاربة فنية واقتصادية تحقق مصالح جميع الأطراف.

ماذا كانت ردود الأفعال على هذه التحركات؟

رئيس وفد مفوضية الاتحاد الأوروبي لدى مصر، السفير مارك فرانكو، شدد على أهمية التوصل إلى اتفاق إقليمي بين دول حوض النيل، وقال: من الضروري العودة إلى المفاوضات والتوصل إلى حل يرضي كافة الأطراف. وقال إن توقيع سبع دول (في عنتيبي) من دون موافقة مصر والسودان فكرة غير صائبة.

ولكن صحيفة «واشنطن تايمز» تتحدث في اتجاه آخر وتقول في افتتاحية لها: «إن رفض مصر السماح لدول منابع النيل بالحصول على حصة عادلة من إمدادات النهر، يعتبر استمرارا في إجراءات مصر الأنانية السافرة، لحرمان هذه الدول من الحصول على حصص عادلة».

ولكن باحثين وخبراء سودانيين، ومنهم عاصم فتح الرحمن، يطرحون تساؤلات حول دور إسرائيل، ويقولون إن إسرائيل وبمساعدة من الولايات المتحدة الأميركية، نجحت في تأمين سيطرتها على بعض مشاريع الري في منطقة البحيرات، حيث قدمت دراسات تفصيلية إلى زائير ورواندا لبناء ثلاثة سدود كجزء من برنامج شامل لإحكام السيطرة على مياه البحيرات العظمى. ووقعت أوغندا وإسرائيل اتفاقا في مارس (آذار) 2000 ينص على تنفيذ مشاريع ري في عشر مقاطعات متضررة بالجفاف. وذكرت نشرة فرنسية متخصصة في شهر فبراير (شباط) 2000 أن إسرائيل أعلنت أنها مهتمة بإقامة مشاريع للري في أوغندا غرب السودان.

ولا يمكن أن نتجاهل هنا الزيارات الرسمية للمسؤولين الإسرائيليين إلى دول حوض النيل، ومنها زيارة سيلفان شالوم وزير الخارجية الأسبق إلى إثيوبيا في 6 يناير (كانون الثاني) 2004، التي بلورت اتفاقات في كثير من المجالات. وتلتها زيارة وزير الخارجية الحالي أفيغدور ليبرمان إلى إثيوبيا وأربع دول أفريقية في 3 سبتمبر (أيلول) 2009، وقام أثناء زيارته بتدشين «المنتدى الاقتصادي لإثيوبيا وإسرائيل»، كما قام بتدشين مشروع زراعي مشترك بين إثيوبيا وإسرائيل والولايات المتحدة.

ولا نريد هنا أن نصور الأمر وكأنه مؤامرة إسرائيلية فحسب، فسعي إسرائيل للالتفاف على مصر والسودان عبر إثيوبيا وغيرها من الدول، سعي معروف وطبيعي، ولكن المسألة تتعلق بوجود دور عربي فاعل في أفريقيا كان قائما حتى حرب عام 1973، حيث أعلنت أكثر الدول الأفريقية مساندتها لمصر والعرب في المواجهة مع إسرائيل. ولكن هذا الدور العربي تقلص في السنوات العشرين الأخيرة، بحيث لم نعد نسمع عن صوت عربي في أفريقيا إلا نادرا.

والعلاقات العربية مع أفريقيا لها جانب دبلوماسي وسياسي، ولكنّ لها أيضا دورا اقتصاديا، لا نقول إنه غائب ولكنه ليس فعالا وليس في مستوى الإمكانات العربية. وإذا كان على مصر الآن أن تواجه هذه الأزمة، فهي تحتاج إلى بناء سياسة مصرية - عربية من نوع جديد، تقوم على التفاعل السياسي، وعلى تقديم المساعدات الاقتصادية، وعلى بناء مشاريع استثمارية داخل أفريقيا، يمكن أن تعتمد على وجود خبرة مصرية في إطار المياه والزراعة والتكنولوجيا، يعترف بها الأفارقة أنفسهم.

إن مسألة المياه التي أصبحت مطروحة على مصر، هي في جوهر الأمن القومي المصري، وهي جديرة باهتمام استراتيجي على أعلى المستويات وعلى نحو متصل، وبعد مشاورات عربية - مصرية يلعب فيها كل طرف دورا خاصا، ومن خلال اهتمام بالمصالح الأفريقية وليس بالمصالح العربية فقط.

لقد ابتذل مفهوم الأمن القومي المصري في الأشهر السابقة إعلاميا، عبر سلسلة من الأحداث الصغيرة، وآن الأوان لطرحه بمعناه العميق. كما آن الأوان للبدء بسياسات جديدة نشطة، تتعامل مع المستقبل كما تتعامل مع الحاضر. وبالتأكيد فإن مصر قادرة على التأثير في أفريقيا أكثر بكثير مما تفعل إسرائيل.. إن هي أرادت.