ثورات بلا آيديولوجيا

TT

الآيديولوجيا سيف الثورات. هذا السيف أُغمد الآن. ندخل الألفية الميلادية الثالثة بثورات ملوَّنة. ثورات احتجاج برتقالية. حمراء. صفراء... التجربة الثورية كمسحوق الغسيل. ما تلبث أن تفقد الثورات ألوانها البراقة. فتنطفئ الحمى الثورية بعد سنين قليلة. بل بعد أيام معدودات!

انطوت ثورة الآيديولوجيا الدموية. استولى بيروقراط البلاط على الماركسية. مسخوها. جمدوها. ثم تولت الرأسمالية دفنها تحت أنقاض جدار برلين. أين خروشوف الذي تعهد بدفن الرأسمالية، وهو يلوح بحذائه في الأمم المتحدة؟ الأحزاب الشيوعية غيرت جلودها. خلعت اللون الرمادي الحزين. راحت تتناوب على حكم أوروبا الشرقية مع الأحزاب الرأسمالية على اليمين وعلى اليسار.

حتى الأحزاب الشيوعية العربية فقدت شهية الثورة. شاخت. ترهلت. دخلت صاغرة. مستسلمة البرلمانات والجبهات الوطنية «البلغارية» التي يقودها «الحزب القائد».

ذاب الحزب الشيوعي المليوني في شمس سودان عمر. حسن. البشير. تعلم الحزب الشيوعي اللبناني كيف يتعايش مع برقع «حزب الله» الأصفر. يتنفس الحزب الشيوعي الجزائري تحت الماء. تعلمه زعيمته لويزة حنون العوم، بعدما رفضت بإباء شيوعي نبيل الهجرة إلى إسرائيل. أما الحزب الشيوعي العراقي، فقد مارس الانضواء تحت البيارق العرقية والطائفية التي حملها الاحتلال الأميركي معه.

معنا، لم يبق ونحن نعبر بوابة الألفية الفوضوية، سوى أحزاب وتنظيمات الآيديولوجيا الدينية. هي لا تنتظر الآخرة. تشاء أن تتعذب في الدنيا بنار الآيديولوجيا. كف الإخوان عن العنف. صالحوا الأنظمة. هادنوا إسرائيل في غزة. فرضوا الجزية على أميركا. فضمتهم إلى برلمانات وحكومات الشيعة في العراق. أعلنت «جبهة الإنقاذ» التوبة في جزائر العسكر. كف الشيخ الترابي عن التهديد «بتكنيس شمال أفريقيا». يدخل. يخرج. يعود إلى زنزانات العسكر الذين جاء بهم إلى الحكم. علمانية الليبراليين «البرادعيين» تنعم بحرية المعارضة. لا يعترفون بالفضل للنظام المصري الذي علم تنظيم «الجهاد» كيف يتخلي عن الجهاد ضد «كفار» المجتمع المدني.

تكتشف الجهادية الإيرانية أن الحرارة الثورية ليست كافية لحماية ثورة الآيديولوجيا. تحاول أن تستعين بالحرارة النووية للوقاية من أعدائها في الداخل والخارج. أما جهادية بوش وأوباما فهي مصرة على مواصلة حربها الدينية ضد «الجهادية» السنية التي تحتمي بأمية المؤمنين البسطاء في (تورا بورا) الباكستانية والأفغانية.

مع الاعتذار من الفصحى اللبنانية، أسأل: لماذا فقدت الثورات الجديدة والقديمة «تموضعها» و«جهوزيتها»؟ لماذا تطلى بألوان لعب الأطفال الصينية؟ الجواب: لأن العالم تغير. ببساطة، لقد تغير العالم كثيرا. هل تغير إلى الأفضل. أم إلى الأسوأ؟

كانت حروب الآيديولوجيا الباردة والساخنة تنتظم العالم بسلك شائك. قلائل، مثل تيتو، تجرأوا على اختراقه. عندما تبدد خطر الحرب الكونية، عمت الفوضى. انهارت الآيديولوجيا. ليبرالية التنمية ألغت الثورات والانقلابات الدموية. حكومة البورصات المالية عولمت السياسة. اختصرت المسافات بين اليمين واليسار.

ها هو اليميني نيكولا ساركوزي يستعير من الحزب الاشتراكي برنار كوشنير كمايسترو سياسته الخارجية. المستشارة المسيحية أنجيلا ميركل تستعين على حكم ألمانيا وأوروبا، بحلف سلطاني، تارة مع حزب اليسار. وتارة مع حزب البزنس. حزب المحافظين البريطاني يتوكأ على حزب الديمقراطيين الأحرار، ليستكمل في مجلس العموم أغلبية الحكم الضرورية.

حكمت الحكومة المالية العالم من وول ستريت وبورصات لندن وفرانكفورت وسنغافورة وهونغ كونغ. المال كالغاز يتبخر. المال كرمال بركان آيسلندا لا تراه. لكن تلمس آثاره السلبية على الاقتصاد. والتنمية. وحركة المجتمعات. سار الرئيس أوباما من اليسار إلى يمين الوسط، لتأمين إنقاذ الرأسمالية. استدان من مليون أسرة أميركية فقدت بيوتها، لينقذ حكومة المصارف ومؤسسات المال والمضاربة. دخل المتمول اليهودي المحتال برنارد مادوف السجن المؤبد. لكن لم يعرف أحد ماذا فعل بـ65 مليار دولار ابتزها من وجهاء العالم المستثمرين في أميركا.

ها هي ثورة أخرى ملوّنة تنفضح. انكشفت «الثورة» المصرفية. غطتها ثورة أوباما الليبرالية، من كيس أميركا المَدِينَة للصين. لليابان. للعرب... بحفنة تريليونات من الدولارات. لكن من يغطي «ثورات» اليونان. تايلاند. أوكرانيا؟

استدانت اليونان لتنفق. أنفقت لتستدين. مولتها مصارف الدولار واليورو. عندما عجزت عن السداد. لم تستطع اللعب مع اليورو. فهو عملة السادة في ألمانيا وفرنسا. عندما طالبت ميركل اليونان بشد الحزام سترا للعورة، أجبرتها فرنسا وأميركا على إنقاذ «الأكريبولس» من الانهيار، وخوفا من أن تنتقل العدوى إلى أشباه المفلسين الطليان والإسبان والبرتغال.

عندما علم الفقراء بأن عليهم شد الحزام نزلوا إلى شوارع أثينا. خافوا على مكاسبهم. ثاروا. لحق بثوار اليونان ثوار تايلاند. احتل العدميون والفوضويون قلب أثينا وبانكوك. أحرقوا رموز السلطة (المباني الحكومية). دمروا المصارف (رموز الثروة). نهبوا المخازن السلعية (رموز الاستهلاك المُسْرِف). تشابه الثوار هنا وهناك: فقراء. بسطاء. هامشيون. متقاعدون. لصوص. مجرمون.

تمترست الثورتان باللون الأحمر. ثورتا احتجاج. ثورتا غضب مع قليل من الدماء. وكثير من الدموع. لم تصلِّب الآيديولوجيا الثورات الجديدة. كان سهلا على الدولة أن تقمع. أن تضرب ثورات الموقف العابر. استسلم الريفيون الفقراء وهم يبكون. عادوا إلى قراهم في مجاهل ريف بائس يحلم بابتسامة الرفاهية التقليدية التي تستقبلك بها فتيات تايلاند في مواخير التدليك المعطرة في بانكوك.

تطلع الثوار الفقراء إلى وساطة الملك المحبوب. لكن بوميبول الراقد في المستشفى لم يستطع التدخل للفصل بين الفقراء وحكومة البزنس، كما كان يفعل خلال 64 سنة من ملكه المديد. أما الملياردير ثاكسين الذي حرض الفقراء على الثورة. فقد فر إلى المنفى بعد الانقلاب العسكري على حكومته (2006) متهما بالفساد. جنرال الفقراء الذي حل محله اغتيل برصاصة قناص حكومي.

الثورات الجديدة هشة. ساذجة. سطحية. لا تملك فكرا وزعامة. الثورة البرتقالية في أوكرانيا عادت مستغفرة إلى جلادها. انتخبت فيكتور يانوكوفيتش الذي ثارت عليه، عندما زور الانتخابات الرئاسية (2004). ثوار أوكرانيا الملونون خاب أملهم بثوارهم القادة. أشفقوا على زعيمهم الذي شوهت المخابرات وجهه. انتخبوا فيكتور يوتشينكو رئيسا. فاختلف مع شريكته السياسية الجميلة بوليا تيموشينكو. تخليا عن الإصلاح. انهمكا في توزيع غنائم الثورة على البطانة. فقدت ثورة أوكرانيا البرتقالية لونها. لكن حققت الحرية. وزورت الديمقراطية، انتقم الناخبون من فيكتور أميركا بالعودة إلى فيكتور روسيا! كافأ فيكتور المنتصر روسيا، فورا، بتجديد عقد القاعدة البحرية الروسية في شبه جزيرة القرم، في مقابل غاز روسي رخيص يحرك المصانع. ويدفئ الأطفال والأمهات.

ما أسهل الثورات بلا عذاب الآيديولوجات. شتمني في الصحف ثوار ثورة الأرز البرتقالية. عندما قلت إنه لا يمكن أن يقوم حكم مستقر في لبنان معاد لسورية. صالحت ثورة أوكرانيا روسيا. صالحت ثورة لبنان البرتقالية سورية. وفي ثورات لبنان، دائما، ليس هناك فيكتور غالب. وفيكتور مغلوب.