السؤال ورحلة الخوف والقلق والإبداع

TT

كنت مستغرقا في قراءة كتاب حول نظرية المعرفة في الإسلام عندما بادرني أحدهم قائلا بعد تحية خفيفة وبلهجة صارمة وتوتر باد على قسمات وجهه ومن دون مقدمات، كان كمن استأنف نقاشا حادا في قضية من قضايا الفكر الشائكة. سألني متحديا: هل يمكن أن يكون الإنسان مؤمنا ومبدعا في الوقت نفسه؟ أليس من شروط الإبداع الثورة على التقاليد والأعراف والقيم السائدة ومن شروط الإيمان التسليم والقبول، التسليم بوجود الله والتسليم بضرورة النبوة فالتسليم بأقوال ورثة الأنبياء، أئمة وعلماء بحسب الزاوية المذهبية التي ينطلق منها المؤمن.

ومن دون أن يأخذ نفسا استمر في إطلاق سراح أسئلة ظلت على ما يبدو حبيسة النفس لفترة طويلة، من مثل: ألم تتسع دائرة التسليم عند المؤمنين حتى لا يبقى عندهم في النهاية إلا هذا العقل الإجرائي الذي يختزل المعرفة في البحث عن الحقائق ذات الفعالية المؤقتة والمتغيرة؟

لم يكن من السهل إيقافه عن إفراغ زاده من الأسئلة فتركته منطلقا، وبعد أن مسح تقريبا المجالات كلها مارا بقضايا المرأة والديمقراطية والعلمانية والحداثة حتى أنهى كلامه متعجبا «ومع ذلك ما زال بعض منتحلي العلم يتكلمون عن المعرفة في الإسلام». كان في نيته على ما يبدو العزم على إلقاء هذه الحزمة الكبيرة من الأسئلة والمضي في حال سبيله، ولكنني طلبت منه أن يتمهل قليلا لعل الحوار في بعض المسائل المنهجية يساعد على تعديل الوقفة وتسديد الرؤية. قبل بذلك تأدبا منه، وإن كان لسان حاله يقول لا فائدة علمية تُرتجى من الحوار في مثل هذه المسائل عندما تكون المنطلقات الفلسفية على طرفي نقيض.

قلت له دعنا ننطلق من تثبيت مسألتين من الصعب أن نختلف فيهما؛ الأولى: الاعتراف بأن الله أو لنقل التكوين الطبيعي للإنسان - طالما أني لا أراك تحبذ المنطلقات الإيمانية - جعل منه كائنا يمتلك قدرة لا متناهية على السؤال، وقدرة - لا شك - متراكمة - على الأقل في بعض المجالات - ولكنها محدودة عن الإجابة. وفي ذلك تكمن عظمة الإنسان وتكمن مأساته في نفس الوقت. فهو مجبول على حب المعرفة ومدفوع بطموح يفوق طاقته للإحاطة بكل شيء علما.

الثانية: ليس من الضروري أن يكون الإيمان الديني نقيضا لحب المعرفة والبحث عن اليقين المفضي للاطمئنان. ألم يقل إبراهيم عليه السلام وهو النبي باعتقاد المؤمنين «رَب أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِن قَلْبِي». ألا ترى أن النبي إبراهيم عليه السلام قد جعل من مضمون جوابه قاعدة تقول: إن المعرفة هي أساس الاطمئنان وليس الإيمان الذي يبنى على الجهل في بعض الأحيان؟ فالسؤال هو المنطلق لبلوغ قدر من الاطمئنان، وإن كان الإيمان إذا تأسس على الاقتناع يصبح ممتلكا لطاقة ذاتية تمكنه من النمو المستمر. وهذه قاعدة أعتقد أنها تصلح في كل الأحوال، بغض النظر عن طبيعة القضايا الإيمانية، غيبية كانت أو وجودية، حيث إن إعمال العقل أو إحالته على التقاعد مسألة مرتبطة بفهمنا للدين وبفهمنا للآيديولوجيا التي نؤمن بها. فكما يمكن أن نجد متدينا مستثمرا لكل قدراته العقلية يمكن أيضا أن نجد عقلانيا معطلا للعقل بتعصبه له.

نأتي الآن لمسألة الإبداع وعلاقتها بالإيمان. فمتى يكون الإنسان مبدعا؟ وهنا نتوقف فقط عند الشروط الذاتية للباحث، لأن الإبداع في النهاية هو حالة من الانقداح الذهني تُسهم في إيجادها عدة عوامل منها ما يتعلق بالباحث وهمومه، ومنها ما يتعلق بالظروف الموضوعية المتشابكة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية. يبدع الباحث عندما يثير سؤالا جديدا أو عندما يقدم إجابة جديدة لمسألة قديمة. ولذلك فإن ما نسميه تجاوزا تجديدا في الفكر أو في الفقه لا يرقى إلى المفهوم الحقيقي للتجديد، لأنه لا يعدو أن يكون إلا إحدى حالتين؛ إما قولا في مسألة مستحدثة بفعل ما يحدث في الواقع من مستجدات، وإما ترجيحا لقول من الأقوال القديمة في مسألة من المسائل. وفي كلتا الحالتين لا وجود لصياغة جديدة لسؤال قديم ولا لإجابة جديدة لمسألة قديمة. قد يقول قائل كيف لا تعتبر الإجابة عن مسألة مستجدة تجديدا؟ أقول لأنها ببساطة إجابة جديدة بحكم تعلقها بمسألة مستجدة وليست تجديدا. وهذا لا يعني أن التجديد يجب أن يكون غاية في حد ذاته فنلغي كل قديم فقط لأنه قديم لا لأنه بالأصل كان خاطئا أو لأنه أصبح مشكلا بعد أن كان حلا.

ولكن إذا كان السؤال من شروط الإبداع فليس حضوره بكثافة، كما هو الحال في ظاهرة الفتاوى العابرة للقنوات، يعكس بالضرورة وعيا ناميا بل قد يكون تعبيرا عن عطالة ذهنية مربكة، خاصة عندما يصبح المعلوم من الدين، أو على الأقل ما من المفروض أن يكون معلوما، مادة يتبارى فيها أنصاف المتعلمين. السؤال عن المعلوم هدر للطاقة وتخل عن المسؤولية الفردية وترسيخ لمنهج التفكير بالنيابة، لأن الدين في الأصل قول محكم وواضح وليس طلاسم لا يحل شفرتها إلا ذوو الاختصاصات الخاصة. نعم كان المسلمون يستفتون النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان ذلك قبل أن يكتمل الدين، وكان فيما استغلق عليهم من المسائل.

ومن الأسباب المعيقة للإبداع، الخوف المزدوج، خوف من الموقعين عن رب العالمين، وخوف من الموقعين عن السلطان. بين سهمين مرسومين بخط أحمر وبالبنط العريض وفي اتجاهين متعاكسين؛ الأول يشير إلى خطر الإخراج من الدين، والثاني إلى خطر الإدخال إلى السجن. في مثل هذه الحالة لم يبق أمام المفكر الذي اختار الخلاص الفردي إلا القيام بحملة اعتقال واسعة لكل الأسئلة التي تخطر بباله ويضع بعضها في زنزانات انفرادية لا يجرؤ على البوح بها حتى لنفسه، وعندما يشتد ضغطها عليه يعمد إلى خنقها وكتم أنفاسها. في مثل هذه الحالات تظهر أهمية المفكر الحر والعالم الحر الذي يوطن نفسه على الأخذ بالعزيمة في زمن تفنن غيره في الأخذ بالرخص، همه أن يكون متوازنا مع نفسه.

لقد كان الدين الإسلامي في صورته الناصعة وسيظل على الرغم من القوالب الجاهزة التي تريد أن تمتص منه جوهرة الحرية، المعين الذي لا ينضب للسؤال ونبذ التقليد وتلك هي روح الإبداع الذي يهدف للبناء والرقي بالذات الإنسانية وليس الإبداع الذي استهوته معادلة البناء والهدم المفضية إلى الثورة على كل القيم، فيتحول الإنسان إلى مجرد كائن استهلاكي، همه الأوحد إشباع غرائزه بطرق شتى والانسلاخ من كل الضوابط الأخلاقية. لم يمنعنا الله من السؤال عن الروح مثلا لأنه قال «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروحِ» فتلك هي طبيعة الإنسان المتسائل دوما ولكنه نبهنا إلى أن الروح من أمره فلا جدوى من البحث فيها. وبالتالي، فلئن كانت الأسئلة كلها ممكنة، فإنه يتعين على الباحث أن يتخير منها ما يزداد به تكريما لنفسه وتسخير ما في الطبيعة من إمكانات لخدمة القيم النبيلة.

* أستاذ في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس