إيرانيا.. عندما تُقلب عوامل القوة إلى أعباء

TT

في المقال السابق تطرقت بإيجاز إلى عدم قدرة إسرائيل على توجيه ضربات تدمير «ناجحة» إلى المنشآت النووية الإيرانية، وهو ما قد يبعث نشوة غرور في نفوس سيطرت عليها عقول متخلفة لا تفهم العوامل الاستراتيجية الكبرى في إدارة الصراع. فمحدودية القدرات الإسرائيلية لا تمنع قيادتها من اللجوء إلى خيارات تحريك الموقف الدولي عسكريا. مع التأكيد على أن المعضلة ليست إسرائيلية إيرانية، وقد تكون جزءا من تكوين المعضلة «افتراضا».

من عوامل قوة إيران، التي بنيت عليها فلسفة غرور قيادتها الحالية: سعة مساحتها الجغرافية، وصعوبة تضاريسها، وكثافتها السكانية التي تمكنها من تجييش الجيوش البرية وتحمّل نسبة عالية من الخسائر البشرية، وطول سواحلها البحرية التي تقدم لها فرص التهريب للالتفاف على العقوبات، وكذلك حدودها البرية، ووجود علاقات ارتباط وتنسيق وتعاون مع حركات مسلحة وإرهابية تتيح لها قدرة تخريبية في بعض الدول، وقدرتها على شل الملاحة في منطقة الخليج لأجل قصير، وتمتع قيادتها بقدرة معينة من الشحن الروحي.

وبعد هذا التسطير الموجز لعوامل القوة سأتجنب تسطير عدد لا يحصى من عوامل الضعف. وسأتطرق فقط إلى الكيفية التي يمكن بها قلب عوامل القوة إلى أعباء وثغرات تؤدي إلى تعقيدات إيرانية في إدارة صراع واسع.

عوامل القوة الإيرانية لم تصمد أمام العراق خلال حرب السنوات الثماني، على الرغم من محدودية قدراته الفنية، واضطراره إلى شراء آلاف الدبابات الصينية «المتخلفة»، لأن الروس قد أوقفوا توريد السلاح إليه في مرحلة حرجة من مراحل الحرب. فكيف ستصمد عوامل القوة الإيرانية أمام أقوى قوة عسكرية في العالم، على افتراض وقوع مجابهة «لم تظهر دلائلها حتى الآن»؟

الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين رحل تاركا سجل أفعال ستعاد قراءته بواقعية ترسم بها السلبيات والإيجابيات بخطوط بيانية مضطربة. فالحقيقة أن صدام هو أول من تحدث عراقيا عن قلب عوامل القوة الإيرانية إلى عناصر ضعف. فلا أنا ولا غيري من ذوي الاختصاصات العامة والخاصة قد سبقه بدراسة شاملة عن ذلك.

قبل كل شيء، لم تعد الكتلة البشرية الأكبر مؤيدة لنظام ولاية الفقيه، الذي تشقق عموديا وأفقيا نتيجة ما وصف بتحريف نتائج الانتخابات. فقوى المعارضة تزداد في كل يوم اتساعا، حتى لو غُلبت على أمرها في ظروف عدم تعرض النظام لضغوط خارجية استثنائية. والكتلة البشرية يمكن أن تتأقلم مع ظروف حياتية قاسية عندما يكون إيمانها راسخا بعدالة موقف السلطة. وعندما تهتز الثقة تتزايد تفاعلات التأثير السلبي في الضغوط اليومية على مستوى المعيشة. وعندما تضرب مفاصل القيادة بما يجعلها غير قادرة على ممارسة السلطة الحازمة تشتعل شرارة الثورة. خصوصا في ظل التوزيع السكاني المنفصل جغرافيا على أساس الانتماءات العرقية والدينية. وإذا ما اختار أكراد العراق استغلال الفرصة ومساندة أكراد إيران، ولديهم الآن إمكانات كبيرة، فإن كردستان إيران ستكون محطة الانطلاق الأولى لصفحة المتغيرات الجذرية في إيران.

انتشار الأهداف المهمة على رقعة جغرافية واسعة لا يشكل عقبة أمام مخططي عمليات الضربة الخارجية لدول تمتلك قدرات عالية. بل على العكس فإنه يعد معضلة كبيرة لقوات الدفاع الجوي الإيراني. وكل ما يتحدثون عنه من نشاطات تطوير وتقدم يدحضه التهالك المكشوف من أجل حيازة صواريخ روسية. وفي وضع كهذا يتحول الانتشار الواسع إلى عبء عملياتي كبير لوحدات الدفاع الجوي الإيراني. حيث يمكن للطائرات المغيرة والصواريخ الموجهة تحقيق أهدافها من دون تعقيدات تذكر. وينطبق الوضع ذاته على الجسور الاستراتيجية التي تربط مناطق إيران المتباعدة، وهي كثيرة، ويؤدي تدميرها إلى إضعاف الترابط بين الأطراف والمركز.. وما إلى ذلك مما لا يتسع المجال لذكره.

من وجهة نظر المخططين الإيرانيين، تعتبر العلاقات مع قوى الإرهاب الخارجي مصدر قوة، من دون التحسب لقدرة الأجهزة الأمنية الأخرى على كشف شبكاتهم، وربما تغيير اتجاهها، وإثارة موجات من التحسس و«الرفض» لفلسفة النظام الإيراني. وكلما اتسعت دائرة الكشف تتأثر العلاقات التجارية مع الدول المعنية في منطقة الخليج. فيتحول ما يحسب عامل قوة إلى عبء استراتيجي. بيد أن نشاطا من هذا يتطلب رغبة سياسية إقليمية لتسخير الموارد والإمكانات في إدارة صراع خفي. ومن الضروري تجسيد فكرة إيقاظ الخلايا الإيرانية النائمة «عربيا» بواقع ملموس. وعندما يكون الكشف على المستوى الإقليمي لا قطريا تتزايد أعباء المولعين بالإرهاب.

الحديث طويل، وسأحاول طرحه للمناقشة بين فترة وأخرى. ليفهم أصحاب الغرض السيئ والمهووسون بهالة القدرات الباسدارانية، أن الناس ليسوا غافلين عن حقيقة أوضاعهم. ولا شك في أن للأجهزة الخاصة دراسات مستفيضة. فلا تهديد أكثر خطرا على أمن العالم من هوس الخمينيين.