يوم في حياة الصحافي السياسي

TT

أدق كلمات هذه السطور، والحكومة الائتلافية لا تزال في المهد في يوم مزدحم (الخميس) بدأ بلقاء صدفة على رصيف «داوننغ ستريت» مع ايان دانكان - سميث وزير العمل والمعاشات، وهو يوشك دق باب رقم 10، مقر رئيس الوزراء، فيما نعرفه بـ«لقاء عتبة» ترجمة لـdoor - stepping، بتفعيل الاسم «عتبة» (باب الدار). وتعني مباغتة المسؤول على عتبة داره أو مكتبه بلا ترتيب مسبق، والصحافي مهاجم لم ير الحكم تسلله والمسؤول حارس وحيد تسجل السلطة الرابعة الهدف في مرماه.

السياسي المنتخب لا يستطيع الاحتماء باتفاق الجنتلمان off the record أي «كلام غير منسوب» مع الصحافة. ففور انتخابه من الشعب لموقع المسؤولية يحتل منصبا مشاع الملكية؛ وكل كلمة محسوبة عليه (هناك مكان محدد في البرلمان تحرم التقاليد الصحافية نشر ما يتبادل فيها من معلومات إلا بإذن صاحبها).

دنكان - سميث، وكان زعيما للمحافظين في المعارضة، سياسي بارع، التزمت تصريحاته لنا بما وعده في الانتخابات بتقديم مشروع قانون لمجلس العموم بتعديل لوائح العمل من وضع شاذ نما وترعرع في كنف الحكومة العمالية. كثيرون (من مهاجرين ولاجئين سياسيين كحالة أبو حمزة) يتلقون إعانات بطالة وإعانات اجتماعية تفوق كثيرا راتب الوظيفة، وبالتالي يفضلون البطالة على العمل.

الإعانات تكلف الخزانة البريطانية سنويا 200 مليار جنيه إسترليني. اقتراح دنكان - سميث بدا معقولا، وحتى ايفيت كووبر، نظيرته في حكومة الظل أثنت عليه بدلا من انتقاده.

ولا يزال «مشروع قانون»؛ فالتقاليد الدستورية الديمقراطية (والدستور البريطاني غير مكتوب وإنما مجموعة تقاليد وممارسات وإجماع للساسة يحكمها قانون المملكة) لا تسمح للوزير بأن يصدر قرارا قابلا للتطبيق أو يصدر رئيس الوزراء قانونا حتى ولو كان في مانيفستو الحزب الانتخابي ووافق عليه الشعب في صناديق الاقتراع. الاقتراح يدرج على جدول الأعمال البرلمانية، كمشروع قانون، ويناقشه مجلس العموم، وتدرسه اللجان، وإذا وافق عليه المجلس بالأغلبية يرفع لمجلس اللوردات (وفيه قضاة ومحامون وساسة أي يمثل حكماء الأمة) وغالبا ما يجري اللوردات التعديلات عليه، يعيده للعموم للتخلص من الجمل السياسية واللبس، وقد يتردد بين المجلسين لأشهر؛ وفقط عند قبول المجلسين، يرفع للملكة لتعتمده قانونا.

بعد «العتبة» كان اللقاء مع سكرتير رئيس الوزراء، الذي يلتقي الصحافيين مرتين يوميا. لقاء «كلام غير منسوب» لشرح خلفية السياسة على لسان موظفي دولة غير منتخبين. شرح السكرتير خلفية إجابات رئيس الوزراء على أسئلة مذيع الـ«بي بي سي» في الصباح عن سياسته الاقتصادية والتعديلات الدستورية.

اللقاء الثالث عند خروجي من الثاني كان «عتبة» غير مقصودة، بمصادفتي جورج اوزبورن، وزير المالية؛ ثاني أقوى منصب في البلاد. حتى عشرة أيام كان يخالط الصحافيين ويتناول معنا المشروبات في البرلمان. تصيدته فناقشته في اقتراح الخزانة (وهي وزارة تحتية ضمن المالية) رفع ضريبة زيادة رأس المال من 18% إلى 40% (أي ضريبة على المكسب المتراكم بمرور الوقت من فارق ثمن شراء عقار أو سندات عن ثمن البيع)، خاصة وأن كثيرا من «العواجيز» أمثالي من المستقلين، أي الذين لا يتقاضون راتبا ثابتا من أي جهة، وليس لديهم معاش من الدولة أو غيرها؛ استثمروا في عقار أو اثنين لبيع أحدهما عند التقاعد واستخدام الثمن لدفع قرض محل الإقامة، أو استخدام إيجاره كبديل للمعاش.

ورغم تحجج اوزبورن بأن الأمة تواجه أكبر أزمة اقتصادية وفي حاجة لإيجاد ستة مليارات جنيه إضافية سنويا لتسديد ديون تركتها الحكومة العمالية بسوء إدارتها للاقتصاد، فإنه أنصت بانتباه مدونا ملاحظاتي وطلب إرسال بريد إلكتروني بتعليقاتي كجزء من استقصائه لكل الآراء. فأجبت بأنني سأخرج عن حيادي الصحافي في هذه المسألة التي يوافقني فيها الصحافيون فوق الـ60 لإقناع الرأي العام بخطأ الخزانة.

أكملت المشوار من وزارة المالية إلى الخارجية، متسلقا «درجات كلايف» الموصلة إلى حديقة سانت جيمس حيث تقع المالية في جانبها الشرقي إلى مدخل الخارجية الغربي. الدرجات يلهث الأصحاء من تسلقها فما بالك بعجوز اشتكت منه العصا التي يتوكأ عليها؟

في الخارجية كان المؤتمر الصحافي لوليم هيغ وزير الخارجية والكومنولث، مستعرضا سياسة بريطانيا الخارجية «الجديدة». الطريف أنها ليست بجديدة وإنما امتداد لثوابت لم تتغير منذ عام 1660 عهد تشارلز الثاني الذي سمي باسمه الشارع الذي تقع فيه وزارة الخارجية.

التزام بحل الدولتين بتأسيس دولة فلسطينية عاصمتها القدس، والعدالة في التعامل مع اللاجئين (ذكر هيغ مراسلا خليجيا بأنه زار دمشق كوزير خارجية حكومة الظل لحث سورية على استئناف محادثات السلام قبل أن يزورها وزير خارجية الحكومة السابقة)؛ والالتزام بالصداقة التاريخية مع العرب والمعاهدات الموقعة معهم ومحاربة الإرهاب في أفغانستان؛ وكلها بالتعاون مع أميركا (وكان لقاؤه الأول كوزير مع نظيرته الأميركية هيلاري كلينتون). والأهم عدم الدخول في منطقة اليورو الأوروبية وإخضاع أي لوائح من الاتحاد الأوروبي تمس المواطن البريطاني إلى استفتاء عام قبل تطبيقها. والأخيرة هي امتداد لأقدم ثوابت الدبلوماسية البريطانية «إبعاد النفوذ الفرنسي عن مناطق نفوذنا»؛ باعتبار أن فرنسا هي القاطرة التي تجر الاتحاد الأوروبي ومهندسها الميكانيكي هو ألمانيا التي خاضت حربين ضد بريطانيا.

اللقاء الخامس كان الأهم - بتعبيره عن فلسفة المحافظين في حماية الحريات المدنية وأهمها حق المواطن في الاختيار - مع سكرتارية وزيرة الداخلية تريزا ماي، التي اشتهرت بصاحبة أكثر الأحذية أناقة عندما كانت في المعارضة؛ لشرح مشروع قانون قدمته للمجلس بإلغاء قرار حكومة توني بلير السابقة بإلزام المواطنين حمل بطاقة التحقيق الشخصية التي اعتبرتها المدام ماي «انتهاكا لحرية المواطن وتدخلا بيروقراطيا في شؤونه ومصاريف لا لزوم لها».

عندما تقدم بلير بالمشروع قبل ست سنوات، عارضه المحافظون والليبراليون وشارع الصحافة.

الطريف أن غالبية العرب المقيمين هنا، وبعضهم بريطاني الجنسية، تعجب يومها من انتقاداتي في الصحف الإنجليزية لبلير واتهامي له بـ«انتهاك الحقوق المدنية» في ثقافة اجتماعية تعتمد على الثقة والصدق، وتترك للمواطن حرية اختيار طريقة إثبات هويته سواء بجواز سفر، أو رخصة القيادة، أو بطاقة الـ«أميركان اكسبريس»، أو بشهادة موظفين اثنين. قال العرب وقتها «الله.. أنت زعلان ليه؟ وإيه المشكلة في بطاقة تحقيق شخصية؟»، مختصرين كفاح الإنجليز قرونا للوصول للماجنا كارتا (1215)، فوثيقة الحقوق المدنية (1689)، فقانون تعميم حق التصويت (1832) وكان قاصرا على ذوي الأملاك.

ولا يزال اليوم مستمرا.