ثلاثة نماذج غير قابلة للاستنساخ

TT

تابعت باهتمام شديد ثلاثة أحداث نقلتها عدسات التلفزيون خلال شهر مايو (أيار) الحالي، ولكل منها طبيعة مختلفة، لكن ما يجمع بينها هو المدى الذي وصلت إليه الديمقراطية الغربية ورسوخ التقاليد فيها والالتزام بالقوانين المكتوبة والمتعارف عليها والدساتير المكتوبة وغير المكتوبة.

كانت متابعتي للأحداث من منطلق أن أولها كانت له تبعات سياسية يجب على المهتمين التعرف على نتائجها وآثارها، أما ثانيها فلعشق متجدد لكرة القدم، أما الثالث فلرغبة في الاستمتاع بمشاهدة تقليد قديم لم يتبدل بتغير المشاركين فيه.

في مطلع الشهر جرت الانتخابات العامة البريطانية في ظل حكومة عمالية، ونتج عنها خروج الحزب عن السلطة التي «أدارها» ولم «يمتلكها» خلال أكثر من 15 عاما.

المشهد الذي نقلته وسائل الإعلام المرئية، أشعرني بالهوة السحيقة التي نقبع فيها ويتراءى لي أننا غير قادرين على تسلق جدرانها. إذ ما إن أعلنت النتائج النهائية حتى انصرف الجميع إلى البحث عن التحالفات التي تمكن كل طرف من إعلان النصر الحاسم، وحدث ذلك خلال أيام قليلة، وكلفت الملكة رئيسا جديدا للحكومة وأمرته بتشكيلها.

لم نسمع عن دعاوى تزوير ولا تشكيك ولا مطالبات بإعادة الفرز يدويا ولا اتهامات بالخيانة والعمالة وتشويه صورة الأوطان. جرى الأمر وتقبل الجميع النتيجة دون أن يتناسى كل طرف الابتعاد عن اللغة الهابطة التي يستخدمها المنهزمون والمنتصرون على حد سواء في غير بلد من أقطار العالم الثالث.

ما إن كلفت الملكة رئيس الحكومة الجديدة القيام بمهامه، حتى أخلى ساكن المنزل الأشهر في لندن مقره، وخرج مع زوجته وطفليه وألقى كلمة للجمع الذي احتشد لوداعه واستقبال خلفه. هنأ الخلف بالفوز وتمنى له النجاح وشكر كل من عمل معهم خلال سنوات رئاسته للحكومة البريطانية.

بعد لحظات قليلة، شاهدنا الوافد الجديد يخرج من القصر المهيب في موكب بسيط، لم يتجاوز فيه إشارات المرور، بحسب ما شاهدت على شاشة التلفزيون، ويصل إلى المقر الدائم في 10 داوننغ ستريت برفقة زوجته، وألقى بدوره كلمة من نفس الموقع الذي تحدث منه خلفه، بدأها بالإعلان عن قبوله تكليف الملكة له بتشكيل الحكومة الجديدة، ثم لم يفته التعبير عن تقديره لجهود خلفه وحبه لبلاده، والإشادة بمناقبه.

خرج رئيس وزراء سابق لحكومة بريطانيا العظمى، ودخل رئيس وزراء جديد إلى ذات المبنى منهيا عصرا سياسيا ومدشنا آخر.

في ذات الشهر جرت المباراة النهائية لتحديد الفائز بكأس أوروبا، في العاصمة الإسبانية مدريد، في أجواء صاخبة وملعب امتلأت مدرجاته بمشجعي الطرفين وحشد من المهتمين بكرة القدم. كان الحماس بين اللاعبين قد بلغ مداه، عندما أطلق الحكم صافرة النهاية معلنا فوز إنترميلان بالكأس الأهم أوروبيا، وتعانق لاعبو الفريقين وواسى المنتصر المنهزم، وخرجوا من الملعب دون أن تراق قطرة دم واحدة، واستلم كل طرف ما يعود له من ميداليات.

نتيجة المباراة لم تكن مهمة لي، لكن الأجواء التي صاحبتها وانتهت بها دلت على رسوخ تقاليد في تقبل النتيجة النهائية وعدم الاعتراض عليها. وإذا ما قارنا ذلك بما نراه على ساحات الرياضة العربية وما تتناوله الصفحات الرياضية العربية سنجد أنها لا تخلو من تشكيك في كل نتيجة لأي حدث رياضي، وكم هي المخازي التي شاهدناها في الملاعب العربية.

في نظري، فإن ذلك انعكاس لحالة الشك التي تسيطر على عقل المواطن العربي في كل ما يرتبط بحياته، سياسيا واقتصاديا ورياضيا. السبب في ذلك أن سطوة القانون لا تصل إلا إلى الذين لا يستطيعون التهرب من تبعاته. العقاب لا ينزل بالجاني إلا إذا كان ضعيفا ولا يتنمي إلى جماعة تستطيع حمايته وتصويره بمظهر المجني عليه، بل والمطالبة بتعويضه عن الأضرار النفسية التي حاقت به جراء اتهامه بجرم لا يرقى إلى مستوى أي عقاب في نظرهم.

أتذكر الكم المفزع واللغة الهابطة التي امتلأت بها الصحف والفضائيات العربية، بعد انتهاء مباراة كرة القدم التي صارت الأشهر بين دولتين عربيتين، وكيف تحولت مباراة كرة قدم بين فريقين - مستواهما لا يقدم متعة نفسية للمشاهد - إلى ساحة لتبادل الشتائم بين كبار المسؤولين فيهما، واحتشدت لها الأقلام للنيل من الطرف الآخر، وصارت الجامعة العربية طرفا مع «شعبولة» في محاولات التهدئة.

لا بد أن علماء الاجتماع قادرون على تفسير هذه الظاهرة المتكررة في كل بلد عربي، لأن القوانين لا تطبق بالصرامة التي تردع المخالفين وتجعلهم يفكرون كثيرا في التخلي عن شططهم وغرورهم واستقوائهم بكل ما لا صلة للقوانين به.

المشهد الأخير، كان خروج ملكة بريطانيا في موكب جميل مذكر بزمن غابر، من قصرها إلى مقر البرلمان لإلقاء خطاب الحكومة.

لم يكن يعنيني في تلك اللحظة ما ستقوله الملكة، لأن الناخب البريطاني قد قرر سلفا الحكومة الجديدة بناء على نفس البرنامج الذي ستلقيه في ذلك اليوم.. لكنني كنت حريصا على الاستمتاع بتلك التقاليد الراسخة ومدى التمسك بها حتى أضحت جزءا من التراث البريطاني.

منذ خروجها إلى حين وصولها إلى مبنى البرلمان، ثم إلقاء كلمة الحكومة ثم خروجها، أذهلتني دقة التفاصيل، وعبق التاريخ في كل حركة يؤديها القائمون عليها، وعمق الاحترام لها.. قارنت ذلك بالفوضى العارمة التي تعصف بكل مناسباتنا، فلا تقاليد تحترم، ولا قوانين تراعى، ولا رغبة في المحاكاة والاستنساخ، بل اجتهادات شخصية ومزاج خاص بالقائمين على هذه الفعاليات.

هذه المشاهد يجب أن تعيد محطات التلفزيون العربية بثها كي نعلم أن رسوخ التقاليد والتمسك بها والالتزام بالقوانين والعمل بنصوصها والاحتكام إلى الدساتير المكتوبة وحمايتها، هذه القضايا هي الفارق بيننا وبين من سبقونا في هذه المضمار.

قد يحتاج الأمر إلى استنساخ شأننا شأن «النعجة دولي»!

* سياسي يمني