هل انقرضت سلالة حاتم الطائي؟!

TT

لا شك أنني أحب الكرم والكرماء وأصطفيهم من دون عباد الله، ولهم في نفسي مكانة مميزة، خصوصا إذا كانت صفتهم النبيلة تلك تشملني وحدي وتغطيني (من - إلى)، أي إذا أمطروني من دون سابق إنذار بهداياهم وعطاياهم الثمينة الفجائية غير المتوقعة، عندها يا سبحان الله تنزل تلك الهدايا والعطايا على قلبي بردا وسلاما وفرحة ما بعدها فرحة.

لكنني في الوقت ذاته (ولكي لا أنزل من عيونكم) لا بد أن أعترف بأن كل ما كتبته لكم قبل هذا السطر ما هو إلا مجرد أضغاث أحلام.

هذه المقدمة الطويلة كتبتها كرد فعل لحادثة عايشتها عندما كنت في جازان قبل أسبوع، ولطفا من بعض الأشخاص هناك الذين أرادوا أن يرفهوا عني أو «يدلعوني» ويفرجوني على جمال الطبيعة هناك، انطلقنا معا في ثلاث سيارات نحو الجبل الأسود وعددنا 12 شخصا، وفي الطريق تعطلت إحدى السيارات وتركناها بجانب حائط لمنزل صغير، وأكملنا مسيرتنا، غير أن الأمطار والسيول حجزتنا عن الوصول إلى هدفنا، ورجعنا إلى حيث السيارة المعطلة لإصلاحها ومن ثم الرجوع إلى جازان، وفوجئنا بشيخ عجوز يجلس على كرسيه خلف السيارة، سلمنا عليه وطلبنا منه الابتعاد عن السيارة لتشغيلها، غير أنه رفض التزحزح عن مكانه إلا إذا لبينا طلبه، فضحكنا موافقين ونحن لا ندري ماذا يريد!.. وإذا به يقول «إنكم لن تغادروا حتى تتعشوا». حاولنا الاعتذار غير أنه أقسم بالله وهددنا بالطلاق لو لم نوافق، فانصعنا لطلبه. وأدخلنا في مجلسه البسيط المتواضع الضيق وأحضر لنا ابنه القهوة، فيما تناهى لنا صوته وهو ينادي على أهله بإحضار مواعين الطبخ، ونادى على ابنه الثاني أن يأتي معه. كان الليل على وشك الانتصاف، وعندما مر الوقت واستبطأناه، خرج بعضنا ليستطلع الأمر، وفوجئنا بأنه قد نحر خمسة من الأكباش. حاولنا أن نعاتبه على فعلته تلك فغضب غضبا شديدا، فأراد أحد «الملاقيف» منا أن يخفف من غضبه وقال له مازحا إنه كان يكفينا تيس صغير يطبخ (كحنيذ). وما إن سمع ذلك حتى ذبح هو وابنه بدلا من التيس تيسين، وهالنا أنه هو مع زوجته وبناته يشعلون خارج البيت نارا عالية، وإذا بالرجال يتقاطرون من كل حدب وصوب من الجبال والوديان، وعرفنا بعد ذلك أنه حسب تقاليد أهل منطقة «الريث» - وهذا هو اسم تلك المنطقة - أنه كلما أولم أحدهم لضيوفه وليمة يشعلون هذه النار الكبيرة ليشاهدها القريب والبعيد ليأتوا ويساعدوا الداعي ويقفوا على خدمة ضيوفه، ولم يجهز الطعام ونتعشى إلا في الساعة الثالثة صباحا.

وجلسنا وحدنا نأكل على سفرة ممدودة وعليها سبع من الذبائح، ويقف حولنا ما لا يقل عن ثلاثين رجلا لخدمتنا، ولم يمد أي واحد منهم يده على الأكل معنا، ولكي لا يظن البعض أن ذلك إسراف، فبقية الأكل سوف يأكله أفراد القبيلة. وما إن ركبنا سياراتنا حتى وجدنا في كل واحدة منها «حلّة» ممتلئة بالعسل.

والغريب أن ذلك الشيخ العجوز لم يسأل أي واحد منا عن اسمه أو صفته أو مهنته.

والآن يحق لي أن أسأل: من هو الذي يقول إن حاتم الطائي قد انقرضت سلالته؟!

[email protected]