نموذج المستقبل تركي.. وليس إيرانيا

TT

لا يمكن للمجتمعات العربية أن تنتقل دفعة واحدة من العهد الأصولي القديم إلى العهد العلماني الحديث. كل مطالبة بذلك تعجيز، ومراهقة فكرية، واستخفاف بثقل الواقع والتاريخ. وإنما يلزمها المرور بمرحلة وسطى تدريجية هي ما يمكن أن ندعوه بالمرحلة الإسلامية الديمقراطية على غرار الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا. وهذا ما يفعله حزب العدالة والتنمية في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان وعبد الله غل ورفاقهما. وسواء أكنا معجبين بكل توجهات هذا الحزب أم لا فإن ذلك لا يغير في الأمر شيئا. فمن الواضح أنه يعبر عن المرحلة التاريخية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية تركية كانت أم عربية أم سوى ذلك. عندما وصل هذا الحزب إلى سدة السلطة قبل بضع سنوات دب الذعر في صفوف الداخل العلماني والخارج الغربي على حد سواء. واعتقدوا أن الأصولية على الطريقة الإيرانية أو حتى البن لادنية قد أصبحت على الأبواب! ولكن تبين في ما بعد ومن خلال السياسات المنتهجة أن هناك خطا إسلاميا ثالثا غير الخط الإيراني وغير الخط الطالباني. إنه خط التحديث المعقول والمصالحة بين الإسلام وقيم العصر وقوانينه وتشريعاته. والدليل على ذلك أن التشريعات التركية المطبقة حاليا في ظل حزب العدالة والتنمية أصبحت تقريبا كلها متوافقة مع القانون الدولي الحديث. هل نعلم مثلا أن تركيا أعطت حق التصويت للمرأة قبل فرنسا بعشر سنوات أو أكثر؟ أتاتورك فرضه عام 1930 في حين أن ديغول لم يستطع فرضه إلا عام 1944. ولم يتراجع الحزب الإسلامي الوسطي عن هذا القرار على الرغم من كره الإسلاميين عموما لأتاتورك. ولم يتراجع عن قرار منع تعدد الزوجات كما كان متوقعا. هل نعلم أن الحجاب ممنوع في الجامعات التركية والمؤسسات العامة للدولة ومسموح به في الجامعات الفرنسية والأميركية؟ من يصدق ذلك؟ ولهذا السبب أرسل رئيس الوزراء بناته للدراسة في الولايات المتحدة لأنه لم يستطع تغيير القانون السابق. أو قل غيّره ولكن رؤساء الجامعات رفضوا تنفيذه. هل نعلم أن حرية العبادة مكفولة للجميع في تركيا من أرمن ويهود.. الخ؟ يضاف إلى ذلك أن التنافس على السلطة يتم بين عدة أحزاب مختلفة في برامجها وتوجهاتها الفكرية ومن يربح أغلبية الشعب حلال عليه. إنه يتسلم السلطة لا أكثر ولا أقل. إذن هناك فهم آخر للإسلام ممكن: فهم عقلاني، وسطي، جريء، تحديثي. هذا لا يعني بالطبع أن تركيا أصبحت دولة ديمقراطية حديثة مستنيرة 100%، وأن كل المشكلات قد حُلّت! فحقوق الأقليات، وحرية التعبير، وحرية تناول المشروبات الكحولية، والمساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن عرقهم أو دينهم، وبقية الحريات الفردية، لا تزال مشكلات مطروحة. ولكن البلاد سائرة على الطريق. وما قطعته في ظرف بضع سنوات يبشر بالخير. وأهم شيء حققته أخيرا هو التالي: إنهاء أسطورة الرعب من حكم الإسلاميين! فهم ليسوا البعبع الذي كنا نتوقعه، إلا إذا فهموا الإسلام خطأ. فلا أحد يفكر في إعادة تركيا إلى العصور الوسطى في ظل أردوغان، ولا أحد يريد تطبيق نظام الحاكمية على طريقة المودودي وسيد قطب، أو ولاية الفقيه على طريقة الخميني وعلي خامنئي. لا.. الشعب هو الذي يحكم نفسه بنفسه عن طريق الانتخابات والتصويت الحر. من يصدق ذلك؟ وهذا يحدث في بلد إسلامي كبير. وبحسب معلوماتنا فإن القادة الحاليين لم يستغلوا وضعهم في السلطة من أجل إعادة المجتمع إلى الوراء أو فرض أيديولوجيتهم عليه. أو قل إنهم حاولوا ثم تراجعوا. فالأحزاب العلمانية لا تزال موجودة بقوة وهي تتصدى لأي خطوة ارتكاسية، وكذلك الجيش، والاتحاد الأوروبي. ولكنها خسرت السلطة لأنها فشلت في إدارة الشؤون الاقتصادية وتحسين وضع الناس، ثم لأنها نخبوية. هذا في حين أن دخل الإنسان التركي في ظل الحزب الإسلامي الحاكم زاد بنسبة 20 % منذ عام 2004 وحتى اليوم. وأصبح معدل النمو الاقتصادي 6 % سنويا، أي أنه يقترب من الدول الصاعدة كالهند والصين.

ويرى الباحث الفرنسي المطلع غي سورمان أن الإسلام لا يمنع التنمية إذا ما فُهم على حقيقته. بل ويمكن القول إنه يحبّذها ويشجع عليها. لماذا؟ لأن القرآن الكريم هو الكتاب المقدس الوحيد الذي يثني على الغني ولا يدينه، وذلك على عكس الإنجيل وكتب البوذية. ولأن النبي نفسه كان تاجرا بل ويشتغل عند امرأة غنية وعظيمة هي خديجة بنت خويلد. وبالتالي فالنجاح المادي في الإسلام هو دليل على الاصطفاء والاختيار من قبل الله. وهذا يشبه موقف اللاهوت البروتستانتي التقدمي كما درسه ماكس فيبر في أطروحته الشهيرة عن العلاقة بين اللاهوت الكالفيني والرأسمالية.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن للنجاح التركي أسبابا أخرى غير لاهوتية كالدعم الأوروبي الهائل. صحيح أن الاتحاد الأوروبي يرفض انضمام تركيا سياسيا. ولكن لا أحد يتحدث عن علاقة الشراكة المتميزة التي تحظى بها تركيا وتؤدي إلى تقوية اقتصادها ودعمه بشكل لا مثيل له.

أخيرا لا نستطيع القول إن إسلام التنوير قد انتصر في تركيا! فهذا كلام سابق لأوانه. ولكن هناك خطوات إيجابية على الطريق. فلماذا لا نشيد بها؟ ثم إن هذه الخطوات تتم عن طريق حزب إسلامي لا علماني. وهنا يكمن مكر العقل أو مكر التاريخ كما يقول هيغل. فالتاريخ يتقدم إلى الأمام عن طريق أناس كان من المفترض أن يعيدوه إلى الوراء! يحصل ذلك كما لو أنه يستخدمهم لتحقيق غايات مضادة لهم، أو لكأنه يتقدم غصبا عنهم. فأنت لا تستطيع أن تتجاوز المرحلة الأصولية قبل المرور فيها ومعاركتها وجها لوجه لكي تتوضح الإشكالية التراثية فعلا. لا يمكن القفز عليها. هذا ليس حلا. وأكبر دليل على ذلك الفشل الذريع للأحزاب «التقدمية» العربية. هنا تكمن أهمية العامل السلبي في التاريخ. فله جوانب إيجابية ضخمة. التاريخ لا يتوصل إلى الإيجابي إلا بعد المرور بالسلبي وإنهاكه واستنفاد مشروعيته التاريخية حتى آخر لحظة، حتى آخر قطرة. بعدئذ يولد الجديد حقا وتشرق شمس الحرية. ذلك أن جميع المفكرين يعلمون الآن علم اليقين أن انتصار التنوير العربي أو الإسلامي سوف يستغرق عدة أجيال، ولن يحصل اليوم أو غدا، وإنما بعد غد.