إ...ه!

TT

ماذا نفعل عندما نرى طفلا رضيعا؟ نتحدث إليه، وكأنه يعي ما نقول له، أو يفهم المدائح التي نكيلها له. الإنسان مخلوق حكاء. أول شيء تعلمه الأم لطفلها، أن يتكلم. أن يصدر ولو أصواتا غير مفهومة. وبعد ذلك تعلمه الوقوف والمشي. لكن، قبل أي شيء، تعلمه الكلام.

ثم يرسل الطفل إلى الروضة. أو المدرسة الأولى. ويبدأ في تعلم الصور التي سوف يتحدث عنها. وعندما يكبر لا نكتفي بأن نعلم أولادنا لغتنا، بل نريد لهم أن يدرسوا لغات كثيرة، لأن كل لسان إنسان. نريد لهم أسلحة إضافية في العلوم وفي السفر وفي التفاهم مع الآخرين.

يقضي الأهل مرحلة صعبة وهم يسمعون الطفل يبكي دون أن يعرفوا ما الذي يبكيه. وعندما يتلفظ بأول كلمة يهزجون ويخبرون جميع من حولهم بالأمر: لقد تكلم اليوم. يراقب الأهل أبناءهم من خلال تطور قدراتهم وطاقاتهم على الكلام. النطق يعبر عن كل شيء في الناطقين: مدى معرفتهم ومدى ثقافتهم ومدى مهاراتهم ومدى ذكائهم. وهو الوسيلة الوحيدة للتعامل بين البشر، ولذا لا يعلم الابن الكلام فقط، بل أيضا أصول الكلام وآداب الكلام وطرائق التحدث مع الآخرين. ثم يعلم قواعد اللغة، سواء سيصبح عالما فيزيائيا أو أستاذا للأدب.

السنوات الأولى من عمر الإنسان تصرف بأكثرها على تعلم المخاطبة. لقد جئنا إلى هذا العالم ومن أجل أن نعيش فيه يجب أن نعرف كيف نتخاطب. أي لقاء ثنائي أو مجلس أو مفاوضة أو تداول السلم والحرب قائم على الحوار. كل كلمة نقولها لها معنى ومدلول وأثر. حتى عندما نخاطب أنفسنا بصمت نفضل الكلمات الحسنة. وعندما نفكر بصمت نفكر عبر الكلمات. وعندما نصغي إلى أغنية تصبح الكلمة في مشاعرنا صنو الموسيقى.

عندما يكبر البشر يكتشفون كم أضاعوا من الوقت. يفقدون الرغبة في التحدث إلى معظم الناس. وتكثر خصوماتهم وتقل صداقاتهم. وعندما يجتمعون تقل أحاديثهم وينخفض أو ينقرض عدد الكلمات التي يعبرون بها. وينصرف البعض عن الكلام إلى الإشارات. نعرف من التجهم - وهو الغالب - أن الأمور غير حسنة. ونعرف من العصا أنه مصاب بالديسك في أسفل السلسلة أو في أعلاها. ولا يعود بعضنا يرد على الأسئلة، بل يكتفي بالهمهمة أو الإشارة. كيف الحال؟ إ...ه! شو الأخبار؟ إ...ه!

بمعنى لا أخبار. كيف لقيت الأكل؟ إ...ه!

يتساءل المرء لماذا تضيع البشرية النصف الأول من العمر في تعلم وإتقان الكلام، إذا كانت ستمضي النصف الثاني في الصمت. إ...ه.