من فيصل.. وإلى فيصل نعود

TT

في زيارة قصيرة إلى فيينا، مقر وكالة الطاقة الذرية، كانت لنا جولة في معهد الفيزياء التجريبية في جامعة فيينا، كان في استقبالنا مدير المعهد البروفسور أنطون تسايلينغر، وقد لاحظت أنه يضع دبوسا على كتفه يحمل منحوتة لرجل أعرفه، وحينما دققت النظر تعرفت على صاحبها؛ شيخ عربي، منحني الرأس إلى الأمام بزاوية 15 درجة، حاد الملامح، عالي الوقار، مرتخي الجفون، تملأ ملامحه علامات الخشوع والابتهال، باسطا بسط الكتاب يدين تشبه أصابعهما جذوع النخل ببروزات تجاعيدها، كمن يسأل ملأها. كان البورتريه الشهير للملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله وهو يدعو ربه.

البروفسور أنطون تسايلينغر أحد الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية في الفيزياء عام 2005، الرجل مهيب، يشبه في هيأته عالم الفيزياء أينشتين بشعره الكث وعينيه الغائرتين، يعتريه الكثير من الخجل والارتباك الذي غالبا ما يميز العلماء لانعزالهم الحياة الاجتماعية الصاخبة التي تولد الاندماج السهل والانطلاق في الحديث. كان الرجل يتحدث عن خصائص المعهد بالكثير من الاعتزاز، شرح تخصصات علم الفيزياء الدقيقة التي يركز عليها في أبحاثه ورؤيته المستقبلية للمعهد. وقد سمعت أثناء تجوالنا في أروقة المعهد الدكتور عبد الله العثمان مدير جامعة الملك سعود يبادره بعبارة خلابة: «من ينال جائزة الملك فيصل العالمية عليه أن يتوقع جديا حصوله على نوبل».

تعقيبا على عبارة الدكتور العثمان حول ارتباط جائزة الملك فيصل بجائزة نوبل فإن عشرة علماء حظوا بجائزة الملك فيصل العالمية تم اختيارهم بعد ذلك لنوبل، بدأ ذلك عام 1984 حينما تم منح جائزة الملك فيصل العالمية في الفيزياء لعالمين (أميركي وسويسري) أعقبها بعامين حصولهما على نوبل، أي أننا نتحدث عن خمس سنوات من عمر الجائزة التي انطلقت عام 1979، في دلالة واضحة على متانة الاختيار وقوة المعايير التي يتم تطبيقها، بل إن أربعة علماء ممن حصلوا على جائزة الملك فيصل العالمية في مجالي الفيزياء والكيمياء عام 2001 نالوا نوبل لاحقا..

جائزة الملك فيصل قدمت نفسها كجائزة عالمية في مجالات متنوعة، ولو كانت مجالاتها تقتصر على خدمة الإسلام والأدب العربي لربما كانت مهمتها أسهل، لأنها بذلك تعكس أهميتها داخل مجتمعها الإسلامي والعربي، ولكنها اختارت أن تكون متنوعة المعارف فولجت باب الطب والعلوم، التخصصات الحيوية الهامة التي يتشاطر السباق حولها كل بلدان العالم. وكانت المهمة صعبة كذلك إن علمنا أن الحصول على ثقة العالم في جائزة حديثة ومن ثم تفاعله معها لن يكون أمرا سهلا خاصة في بدايتها، لذلك كان لزاما على اللجان العلمية داخل الجائزة التي تدعو المؤسسات العلمية العالمية للمشاركة أن تتحلى بالكثير من الحيادية والتقييم الموضوعي وتطبيق المعايير العالمية في الفرز والانتقاء، خاصة أن الجائزة تحمل سلفا سمعة طيبة كونها أحد روافد مؤسسة خيرية معروفة كمؤسسة الملك فيصل، وبامتلاكها كل هذه العوامل احتلت الجائزة في زمن قياسي مكانة مرموقة عالميا.

وبالعودة إلى لقائنا بالبروفسور أنطون تسايلينغر فإني لم أفوت الفرصة خلال اجتماع ضمنا معه وفريق عمله، فعرضت عليه فكرة برنامج يصممه المعهد لاستقبال طالبات قسم الفيزياء بكلية العلوم في جامعة الملك سعود خلال فترة الصيف، كبادرة تعاون تحت مظلة الكلية نفسها أو معهد الملك عبد الله لتقنية النانو بالجامعة، استقبل البروفسور الفكرة بترحيب، والطالبات الآن على وشك قضاء أيام صيفية في معهد مميز في تخصص مميز عند عالم مميز.

أنا من المؤمنين بأن الموتى يتقبلون تواصل أحبابهم، وإن كنت لا أملك دليلا، وليس مهما امتلاك الدليل في مثل هذه المواقف، لذلك، لعل الملك فيصل مؤسس تعليم الفتاة السعودية يتبسم هذه اللحظة وهو يعلم بأن أحد الحاصلين على جائزته يستضيف فتيات سعوديات من جامعة الوطن في معهد عريق للفيزياء في فيينا.

من فيصل، وإلى فيصل نعود..

* أكاديمية سعودية

ــ جامعة الملك سعود