عن الشَعر وخلوّه

TT

كان الشعر (أي ذلك الذي ينبت على رؤوس أصحاب الحظوظ، وليس الذي يكتبه خلاة الحظ) رمزا من رموز القدماء. فهو يشبه خصب الأرض، يحصد ثم ينمو من جديد. وكان المحبون في عصور ليلى ومجنونها يحتفظون بشعرة من رأس الحبيب، علامة على الإخلاص في الغياب. وفي بعض الدول كان الجنود يأخذون معهم إلى الحروب خصلة من شعر زوجاتهم، كتعويذة للحظ، وأمل النصر. وماذا برأيك تعني كلمة «القيصر» في روما أو ألمانيا أو روسيا، القديمة؟ إنها تعني «ذا الشعر الطويل»، لأن الشعر كان علامة القوة. وقد فقد شمشون قوته عندما فقد شعره، تماما مثل صاحبنا غلغامش من قبله. والآن يجعل شبان أوروبا وأميركا شعرهم أشكالا أشكالا، وألوانا ألوانا، كعلامة من علامات التمرد على المألوف الجميل والعادي المؤدب. وكتب الراحل العزيز صادق النيهوم، الذي كان له شعر أفريقي مثل مظلة، أن الألمانية التي أستأجر غرفة لديها، سألته ذات يوم: «ما هذا الذي على رأسك؟»، فأجاب «إنه شعري». فنفت ما تسمع وأكدت ما ترى: «بل هو مكنسة».

مسرحية «شعر» في الستينات روت حكاية تمرد الشبان على جيل الآباء من خلال قصة الشعر الطويل. ولحق رجال الشرطة بالشبان يحلقون رؤوسهم فأطالوا سوالفهم. يقول لنا العلم، أو بالأحرى لأصحاب الحظوظ، إن للمرء 100 ألف شعرة يفقد منها 50 إلى 100 يوميا، ويستعيد تلقائيا ثلث ما يفقد. ولسبب ما، يولد الصينيون والهنود الحمر، من دون شعر على الذقون. وقد ذهب الزميل إبراهيم سلامة إلى الصين في الستينات وهو لا يعرف أنه لن يجد في بكين كلها شفرة حلاقة واحدة إلا عند السفير اللبناني! وكان ذلك أغرب طلب يتقدم به مواطن إلى سفير بلده. ويا أيها الرفاق الصلعان، هل تريدون تعزية حياتكم؟ هل تريدون أن تعرفوا من يفقد شعره بين الرجال، وفقا لكتاب «التاريخ الطبيعي للحواس»؟ إنهم، أيها السيدات والسادة، ذوو الرجولة المتفوقة!.. لذلك، الخصيان لا يصلعون ولا يفقدون شعر رؤوسهم. شعر كثيف وفراغ هائل. لكن لا عزاء يا أصدقائي، كما في مجموعة الشاعر السوري إلياس مسوح «حنان يا أصدقائي»، فالبعض يفضل خصوبة أقل وشعرا أكثر، أو ما يكفي لإخفاء اللمعان القسري «فوق الجبين اللجين» على ما غنت فيروز في «يا عاقد الحاجبين». ولعل أقرب دليل على أن حركة الشعر تشبه حركة الأرض، هو أنه أصبح في الإمكان زرعه عن طريق الاستعارة والاقتراض. البقع الخصبة تجير بعضا من عندها إلى الأماكن الجرداء والبصلة الحية تنبت مكان البصلة الزاحلة. ولقد فاتتني جميع المواسم، حتى البصلي منها. ولا يبدو الأمر شديد الأهمية، فالآفة مرت على رؤوس كثيرة من حولي. وقد أخبرني مرة الراحل تيللي سافالاس (كوجاك) أنه عندما بدأ شعره يتساقط كان برت لانكاستر هو الذي وجه إليه النصيحة التي ذهبت موضة: الصلع الكامل أفضل من الشعر القليل!