مصالح دول الخليج.. والمساومات الأميركية - الإيرانية

TT

رغم الضجيج السياسي والصخب الإعلامي والتشدد الغربي حول فرض عقوبات اقتصادية ضد طهران بسبب برنامجها النووي، فإن هناك وجهات نظر ترى أن هذه العقوبات غير مجدية، وأن واشنطن سوف تقدم تنازلات لإيران على حساب دول الخليج، وهذه الرؤية تتنامى لدى مؤيديها الذين يرون أنها تعتمد على أدلة من الواقع وشواهد من التاريخ، وتنسجم مع السياسة الأميركية، بل تعتمد على المستجدات التي تشهد بزوغ قوى عالمية وتحالفات تنافس الولايات المتحدة، مقابل تراجع الدور الأميركي كقوى متفردة على المسرح العالمي، ويأتي ذلك في ظل تراجع فرص الحسم العسكري لإنهاء أزمة البرنامج النووي الإيراني.

بداية.. لماذا تبدو العقوبات الاقتصادية على إيران غير مجدية؟.. للإجابة.. نرى أن العقوبات المتوقعة لن تكون فعالة لأسباب عدة، منها: أنها تركز على الجانب العسكري، والاستثماري، وليست موجهة ضد الاحتياجات اليومية للشعب الإيراني، كما أن طول السواحل الإيرانية، وكثرة دول الجوار، وصعوبة التضاريس، وعلاقات إيران بالدول التي تناصب أميركا العداء، يزيد من نشاطات التهريب، مع وجود موارد زراعية وطبيعية داخل إيران نفسها تجعل من العقوبات ضعيفة التأثير. وكل ذلك يقابله ضعف في آليات مراقبة السفن والطائرات والنقل البري.

هذا عن تأثير العقوبات الاقتصادية.. فماذا عن الخيار العسكري؟.. المؤشرات تنفي نجاح أي عمل عسكري أميركي - إسرائيلي ضد إيران لأسباب عسكرية، ولوجيستية، وسياسية، واقتصادية، وأمنية.. فالولايات المتحدة على وشك تخفيض مستوى وجودها العسكري في العراق هذا العام، والتعهد بإنهاء هذا الوجود العام المقبل، كما أنها في حاجة إلى تأمين مصالحها بعد سحب قواتها، وهي تدرك أن إيران هي القوى المؤثرة في العراق، وقبل ذلك فإن واشنطن نزفت الكثير من المال والعتاد والأنفس في العراق، ما يجعلها لن تجرؤ على خوض غمار أي حرب بعد التجربة الفاشلة في العراق والمتعثرة في أفغانستان التي كلفتها الكثير من الخسائر، ناهيك بسمعتها ووضعها كقوة كبرى فقدت الكثير من مصداقيتها وهيبتها.

وإذا كان الرأي العام الأميركي والكونغرس لن يسمحا بتكرار ما حدث في العراق، فإن الدول الكبرى غير مهيأة للموافقة على حرب جديدة ليست محسوبة الأهداف والنتائج، تلافيا لما حدث من ويلات في عهد الإدارة الأميركية السابقة، ويأتي ذلك وما زالت حرب الاستنزاف التي تخوضها القوات الأميركية في باكستان وأفغانستان مستمرة.

والدول الخليجية لن تسمح باستخدام أراضيها أو مجالها الجوي في ضرب إيران لاعتبارات كثيرة، كما أن هذه الدول محبطة من عدم التقدم في عملية السلام، في ظل ما تفعله إسرائيل في الأراضي الفلسطينية من تهويد القدس وبناء المستوطنات، ولا يجد العرب أي تحرك أميركي لوقف هذه الجرائم، ثم جاءت أزمة «أسطول الحرية» لتسكب المزيد من الزيت على النار.

ومن ثم فإن نتائج العقوبات غير مجدية، وعواقب الحرب غير مضمونة.. إذن ما هي السيناريوهات المتوقعة لتعامل أميركا مع إيران؟ الشواهد تشير إلى أن هناك غزلا مستترا بين الطرفين، وربما حوارات غير معلنة لكنها لم تصل إلى منتصف الطريق بعد، ولكن ستصل يوما ما نظرا إلى حاجة الطرفين إلى الالتقاء للخروج بأقل الخسائر مع الحفاظ على النهج المعلن لكلا البلدين.. فإيران لا تريد تغيير نبرتها تجاه من تطلق عليه قوى الاستكبار والشيطان الأكبر، كما أن واشنطن لا تريد أن تتخلى عن اتهام إيران بأنها متمردة وداعمة للإرهاب.

ورغم الخطاب المتشنج من الطرفين، فإن الحوار سبق أن بدأ بينهما في بغداد تحت مسمى بحث الوضع في العراق، حيث استضافت بغداد أربعة اجتماعات معلنة، ما اعتبر أن هذه الاجتماعات بمثابة المكافأة لإيران والاعتراف بدورها في العراق. وتكررت هذه اللقاءات بين الطرفين بشأن أفغانستان، وهذا يؤكد أن الحوار الإيراني - الأميركي لم ينقطع، مع احتمالية استمراره سرا، وهذا ليس بمستغرب على السياسة الأميركية التي لا تعرف صداقات دائمة أو عداوات دائمة، بل مارست البراغماتية السياسية مع الثورة الإيرانية في بداية عهدها عندما تخلت عن الشاه، كما أن موقف واشنطن مع صدام حسين مشابه لذلك، حيث أكد رئيس الأركان الأميركي في ذلك الوقت كولن باول إثر غزو الكويت عام 1990 أن بلاده كانت ستسمح لصدام باحتلال الكويت إذا ما تأكدت أنه لن يتحول إلى قوة مهيمنة تهدد منابع النفط، وتوجد أمثلة أخرى، منها أن واشنطن رفضت التدخل ضد الانقلاب الذي أطاح بالرئيس كرمان بك باكييف رئيس قرغيزستان في أبريل (نيسان) الماضي رغم أنها تمتلك القاعدة العسكرية الوحيدة في آسيا الصغرى، وقبلت النظام الانتقالي الذي وعد بإبقاء القاعدة الأميركية.

ونخلص إلى أن واشنطن ليس لديها أي مانع من إبرام اتفاق سري مع طهران تقدم الأولى للثانية بموجبه تنازلات بمقابل، وهنا يكمن الخطر، حيث إن هذه التنازلات ستكون على حساب المصالح الاستراتيجية لدول الخليج، وبموجب ذلك ستسمح واشنطن لطهران أن تكون قوة نووية سلمية في البداية، ثم بالتبعية قوة نووية عسكرية في ظل غياب التفتيش الدولي، وأن يكون لها نفوذ في المنطقة، على أن تؤمن طهران الانسحاب الأميركي من العراق وتحتفظ واشنطن بإمدادات النفط العراقية، وكذلك تساعد إيران أميركا على التخلص من كمين أفغانستان وباكستان، ولن يمثل هذا السيناريو أي حرج للإدارة الأميركية التي ستعتبر إيران النووية أمرا واقعا كما هو الحال بالنسبة إلى باكستان والهند، بل سيرفع ذلك الحرج عن أميركا في ما يتعلق بالمطالبات المتكررة بنزع السلاح النووي الإسرائيلي. إذن خيار المساومة هو السيناريو الأكثر ترجيحا بين طهران وواشنطن، والخاسر في هذه المعادلة هو الطرف الخليجي، ورغم أن هذا الطرف ضد استخدام القوة العسكرية ضد إيران، فإنه لا يقبل بوجود قنبلة ذرية إيرانية وإن كان يؤيد امتلاكها الطاقة النووية السلمية، ولكن تصرفات إيران تثير الريبة لدى الجانب الخليجي، فرغم دعوة الدول الخليجية الدائمة إلى حل قضية الجزر الإماراتية بالطرق الدبلوماسية أو عبر التحكيم، إلا أن إيران ترفض جميع هذه الخيارات، بل آثرت التصعيد بشكل صارخ مؤخرا ردا على تصريحات إماراتية تطالب بالجلاء عن الجزر، وتتخذ طهران مواقف انفعالية بشأن مسمى الخليج العربي الذي تصرّ على أنه «فارسي»، إضافة إلى ما أعلن مؤخرا من تفكيك شبكة تجسس إيرانية في الكويت، وما سبق ذلك من تلميحات بشأن مملكة البحرين.. كل ذلك يشكك دول الخليج في نوايا إيران رغم قناعة هذه الدول بحتمية التعايش الدائم على ضفتي الخليج، وأن عوامل التاريخ والجغرافيا والدين يحتّمون التعايش، إلا أنه يجب على طهران أن تبدي نفس هذه المشاعر، بل تصوغها في سياسات دائمة تجاه جيرانها العرب.

لكن ما هو المطلوب إذن من جميع الأطراف؟.. المطلوب هو الوضوح وعدم إجراء أي ترتيبات أو صفقات في الخفاء، وأن تكون جميع الدول المعنية على طاولة واحدة عند اتخاذ أي قرارات مصيرية حول مستقبل المنطقة، وأن يحدد مصير منطقة الخليج أبناؤها، وأن لا يفوز طرف بمزايا على حساب الآخر، فأي ترتيبات أحادية تفرضها قوى خارجية ستكون مصدرا للنزاعات والتوتر، وعلى واشنطن أن تدرك خطورة تقديم أي تنازلات لطرف على حساب آخر، حتى لا تتكرر أخطاء اتفاقية سايكس - بيكو في المنطقة، وعلى دول مجلس التعاون أن تتمسك بحقوقها وبضمان العيش في منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وعلى إيران أن تتنبه إلى حقيقة أن سياسة حسن الجوار تتطلب ترجمة النوايا الحسنة إلى أفعال تسبق الأقوال.

فهل تصدق نوايا الجميع من أجل سلامة منطقة الخليج؟

*رئيس مركز الخليج للأبحاث