من الدولة «المختارة» إلى الدولة «المعصومة»

TT

سواء استند يهود العالم في وصف بني مذهبهم «بشعب الله المختار» إلى ما قيل عن وعد الله لإبراهيم بأن يعطيه أمة تكون «نورا لجميع الأمم»، أم اعتمدوا هذه التسمية لاعتقادهم بأن الله خصهم، دون غيرهم من بنيه، بكثرة الأنبياء.. فقد يصح القول بأن دولة إسرائيل (الحديثة) حولت «شعب الله المختار» – أو «المحتار» في أمره على حد وصف صديق يهودي المذهب - إلى «شعب الله المعصوم» عن كل خطأ أو زلل.. شاء الآخرون أم أبوا.

على هذا الصعيد، حدث ولا حرج، فلا القرارات الدولية ولا ضغوط الأسرة الدولية قادرة على ردع إسرائيل عن استعمار الأراضي الفلسطينية التي تحتلها منذ عام 1967، ولا الالتزام جديا بتسوية «الدولتين» الأميركية، ولا حتى الإقلاع عن ممارسة سياسة العقاب الجماعي المخالفة لميثاق جنيف الرابع (المادتين 33 و49) رغم أنها إحدى الدول الموقعة رسميا عليه.

أما أحدث مثال على ظاهرة التحول إلى «دبلوماسية العصمة عن الخطأ» فهو قرار حكومة إسرائيل الإبقاء على حصار قطاع غزة رغم ما أثارته عملية التصدي الدموي «لأسطول الحرية» في المياه الدولية من انتقادات واسعة، حتى في أوساط أصدقائها، لتقليد الاستخدام المفرط للقوة، وما حركته من دعوات دولية تطالب برفع حصار يجازي شعبا بأكمله بجريرة حكامه.

«دبلوماسية العصمة عن الخطأ» تتجلى بوضوح في ميل إسرائيل للتصرف كدولة فوق كل القوانين والأعراف.

واللافت أن ظاهرة «العصمة» تزداد استفحالا في أوساط اليمين الإسرائيلي الحاكم مع ازدياد عزلة إسرائيل عن الأسرة الدولية. ولكن، وبعد، مجزرة أسطول الحرية، لم يعد خافيا أن التزام اليمين الإسرائيلي بهذا المنحى الفوقي غير القابل للنقاش في تعامله مع الأحداث، ولا سيما سلام المنطقة، لا يؤلب الرأي العام العالمي عليه فحسب، بل يعرض شرعية دولته للتآكل، واستطرادا «أمنها القومي» للخطر بعد أن تحول تصرفه الفوقي والعشوائي إلى أنشط «وكيل تجنيد» لأعداء إسرائيل المنعوتين بالإرهابيين.

ولا يبدو أن اليمين الإسرائيلي يقلقه كثيرا أن يكون المتضررون من «دبلوماسية العصمة» هم، أولا، أصدقاء إسرائيل، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة التي أعلنت، بلسان وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون، أن حصار غزة غير قابل للاستمرار(unsustainable). وفي وقت تسعى فيه واشنطن لحشد تأييد دولي واسع لمشروع فرض عقوبات دولية على إيران، لم تتردد إسرائيل في أن تدفع قضية عقوبات إيران إلى المرتبة الثانية من اهتمامات الأسرة الدولية بإعلان إصرارها على مواصلة حصار غزة - رغم أن العقوبات تصب في مصلحة إسرائيل قبل أي جهة أخرى في العالم - وأن تفتح لإيران، بهذا الموقف المتسرع، باب المزايدة الدون كيشوتية على المساعي العربية والدولية لفك حصار غزة بعرضها تكليف «الحرس الثوري» الإيراني تأمين حراسة مسلحة للسفن التجارية المتوجهة إلى غزة.

إلا أن تركيا تبقى، قطعا، أكثر «الأصدقاء» تضررا من «دبلوماسية العصمة» الإسرائيلية، فقبل شهر واحد فقط صوتت تركيا لصالح قبول إسرائيل في عضوية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وقبلها بأشهر كانت الأجواء التركية «المدى الحيوي» المتاح لمناورات جوية إسرائيلية - تركية دورية.

كل ذلك لم يردع إسرائيل عن استعداء الدولة الإسلامية الوحيدة التي تقيم معها علاقات استراتيجية برفضها شرطها المعلن لإعادة تطبيع العلاقات معها، أي رفع الحصار عن قطاع غزة، ما دفع الرئيس التركي، عبد الله غل إلى إعلان أن علاقات بلاده مع إسرائيل لن تعود أبدا إلى ما كانت عليه.. والأرجح أن لا تعود طالما استمرت ذهنية العصمة عن الخطأ في التحكم بالقرار الإسرائيلي.