أوباما وغزة

TT

بعد العدوان الفاضح الذي ارتكبته القوات الإسرائيلية في عرض المياه الدولية على «أسطول الحرية» المتجه إلى غزة والمحمل بمساعدات إنسانية وعشرات من المتضامنين ونشطاء المجتمع المدني، الذي أودى بحياة تسعة أتراك فضلا عن عشرات الجرحى، لم يتردد الرئيس أوباما في تبرير ما لا يحتمل التبرير أصلا من سلوك الحليف الإسرائيلي، بحجة أن إسرائيل لها مخاوفها الأمنية المشروعة، من قطاع غزة، على حد تعبيره. كان ذلك بعد يوم واحد فقط من تصريح لنائبه جوزيف بايدن أكثر صراحة ومجاهرة في تحميل النشطاء عدم الاستماع إلى الطلبات الإسرائيلية بتغيير المسار، والسماح للسلطات الإسرائيلية بنقل حمولة سفن القافلة إلى قطاع غزة، بل أضاف في سياق تبرير الصنيع الإسرائيلي، وربما في أكثر اللحظات صدقا مع نفسه ومستمعيه، أن التاريخ الأميركي لم يعرف إدارة أكثر دعما لإسرائيل من إدارة أوباما.

جاء ذلك، بعد أن صوتت إدارة أوباما ضد قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بوصفه حكما متسرعا، إلى جانب جهود مضنية بذلها مندوب الولايات المتحدة لدى مجلس الأمن لإحباط قرار يدين إسرائيل بصورة واضحة عبر التخفيف من تعبير الإدانة وإفراغه من محتواه.

قد تبدو مثل هذه التصريحات والمواقف التي تصدر تباعا عن إدارة أوباما صادمة لكثيرين منا نحن العرب، خاصة بالنسبة لمن رأى في أوباما عنوانا على التغيير والانعطاف الكامل عن حقبة المحافظين الجدد المنقضية، بيد أن تجميع ما تناثر من السياسات الخارجية الأميركية منذ دخول أوباما عتبة البيت الأبيض، وكذا رصد الخيارات المنتهجة على الأرض في الشرق الأوسط، كفيلان بإزالة مشاعر الصدمة أو الذهول هذه.

منذ أن أطلق أوباما خطابه الموجه إلى العالم الإسلامي من القاهرة قبل سنة، ارتفع سقف التوقعات المعلقة على الرجل في تغيير وجهة السياسة الأميركية في المنطقة في غير المنحى الذي استقرت عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في حقبة ترومان، وهي توقعات يختلط فيها كثير من الأوهام بقليل من الحقائق، ليس فقط من جهة تحميل أوباما ما لا طاقة له به، بل لأن الرجل لم يطرح على نفسه أصلا مثل هذه التغييرات التي يتمناها أو يرغب فيها كثيرون منا.

الحقيقة أن أوباما الذي دخل البيت الأبيض محمولا على أكف أزمة اقتصادية خانقة وورطة احتلال أميركي فاشل في العراق، وبوادر فشل مماثل في أفغانستان، لم يكن معنيا أصلا بمراجعة الأسس التي قامت عليها السياسة الأميركية في المنطقة، وفي مقدمة ذلك العلاقة الخاصة بإسرائيل التي ينظر إليها باعتبارها جزءا من الأمن القومي الأميركي، بقدر ما كان معنيا أساسا بإعادة ترتيب وضع القوة الأميركية وضمان زعامتها الكونية المهددة. وذلك بمواجهة تحديين رئيسيين؛ أولا: تدارك ما خسرته أميركا على الساحة العالمية لصالح قوى دولية أخرى صاعدة ومنافسة، نتيجة رعونة المحافظين الجدد في اعتمادهم المفرط على العضلات العسكرية من دون غيرها، وإدارة الظهر بالكامل للحلفاء التقليديين مع ما ولدته هذه السياسة من اتساع دائرة الكراهية والسخط على أميركا في سائر أرجاء العالم، خاصة وقد نقض المحافظون الجدد القاعدة الأميركية الذهبية التي سنها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والتزم بها ضمنا أغلب ساسة البيت الأبيض، التي تقول: «عليك أن تتحدث لغة ناعمة ولينة وأنت تحمل عصا غليظة خلف ظهرك».

ثانيا: الخروج بأقل الخسائر الممكنة من ورطة احتلال العراق لمواجهة ما يعتبره أوباما مواطن تهديد أشد خطرا، وفي مقدمة ذلك مواجهة الملف النووي الإيراني والجماعات العنفية مثل «القاعدة» وأمثالها، وإعادة نشر القوات في أفغانستان.

بعض هذه «المراجعات» (ويجب وضع كلمة مراجعات هنا بين هلالين) بدأ منذ الدورة الثانية لحكم بوش الابن نفسه، وبعضها الآخر هو في الحقيقة أقرب إلى العودة للتقاليد التي كانت تنتهجها الإدارات الأميركية المتعاقبة، منه إلى الانعطاف أو التغيير. ويكفي أن يقارن المرء بين استراتيجية الأمن القومي التي مررها المحافظون الجدد سنة 2002، والوثيقة اللاحقة التي أصدروها سنة 2006، ومع بداية الدورة الثانية لحكم بوش الابن، حتى يدرك حجم التغيير الذي اضطر المحافظون الجدد إلى ابتلاعه.

وهنا يمكن القول إن أهم عناصر المراجعة التي وضعها أوباما على رأس أجندته في مجال السياسة الخارجية تتمثل في العودة مجددا إلى توثيق الصلة بالحلفاء التقليديين، خاصة الأوروبيين، بديلا عن مقولة «تحالف الراغبين» التي تبنتها الإدارة السابقة، جنبا إلى جنب مع العودة إلى مظلة الهيئات والمنظمات الدولية، على نحو ما عكست ذلك استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة، الصادرة قبل بضعة أيام فحسب، التي قدم لها أوباما بقوله: «تبدو الولايات المتحدة الأميركية مؤهلة بالكامل للقيادة أكثر من غيرها في هذا القرن الجديد المتسم بعدم اليقين».

أما حظنا نحن شعوب هذه المنطقة من العالم الموصوفة بـ«الشرق الأوسط الكبير» من «التغيير» الأميركي المنتظر طويلا، فهو لا يزيد عن جانبين اثنين؛ أولا: «إغلاق» ملفي «الديمقراطية» و«الإصلاح السياسي» اللذين جعل منهما المحافظون الجدد عنوانا لسلسلة حروبهم التي لا تنتهي، ومن ثم العودة إلى أولوية الاستقرار السياسي المعهودة، التي هي في الحقيقة مقولة مخففة للحفاظ على الجمود السياسي وحماية الوضع القائم بأي ثمن. ثانيا: إعطاء مزيد من الأهمية لمعركة كسب العقول والقلوب، عبر استخدام ما بات يعرف بـ«القوة الذكية والناعمة»، التي تقوم على أولوية الدبلوماسية العامة والدعاية الإعلامية واستثمار أدوات التأثير الثقافي والتوجيه النفسي الخفيين، لتحقيق الأهداف المرجوة، مع الاقتصاد في استخدام القوة العسكرية عند حدود الضرورة المرتبطة بأولويات الاستراتيجية الكبرى. ولعل هذا ما يفسر حرص أوباما على نخل مصطلحاته وصقل خطبه الموجهة إلى العالم الإسلامي خلافا لسلفه بوش الذي برع في استثارة جمهور إسلامي غاضب، والإمعان في تفجير القنابل في وجهه بمناسبة وبغير مناسبة.

بيد أنه عند التحقيق، يتبين أن ما يفعله أوباما لا يزيد عن كونه مزيجا مركبا من «التكتيكات» القديمة والجديدة التي لا تخرج عن النص الأميركي، ولك أن تقول هنا: ثوابت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، التي يقف على رأسها حماية إسرائيل وضمان تفوقها الكامل على الدول العربية سواء كانت منفردة أو مجتمعة، وتأمين السيطرة على منابع النفط وإبعاد القوى الدولية المنافسة عنها. فضمن هذه الأولويات، يحاول أوباما تلمس أفضل الوسائل وأنجعها حيث تتعاضد القوة الصلبة المرتبطة بالقدرات العسكرية بالنفوذ السياسي والثقافي الناعمين.

فعلا، يتسم أوباما بإحساس شديد بأهمية استخدام القوة الذكية والناعمة وحسن توظيفها، وذلك خلافا لأسلافه من المحافظين الجدد الذين برعوا في استخدام العصا من دون جزرة أصلا. حينما سئل وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد عشية شن الحرب على العراق عن حجم تراجع القوة الناعمة الأميركية نتيجة هذه الحرب، اعترف بأنه لا يعرف دلالة هذا المصطلح أصلا، ثم أجاب بأن مسألة الشعبية مضللة ولا يجب أن تكون حكما للسياسة الخارجية. الولايات المتحدة الأميركية، على حد قوله، قوية بما يكفي، وهي قادرة على فعل ما تريد من دون حاجة لموافقة العالم، كما أن عليها أن تقبل حقيقة كونها موضع حسد وكراهية من الآخرين بسبب ما تتمتع به من عظمة وقوة.

يراهن أوباما على تحقيق الأهداف الأميركية المعروفة جيدا والمحددة سلفا عند كل من يجلس على كرسي البيت الأبيض، وهو لا يختلف عن سلفه إلا من جهة سعيه لعقلنة الوسائل والإجراءات الفنية المعضدة للقوة العسكرية. سبق لجوزيف ناي، الأب المؤسس لمفهوم القوة الناعمة في تسعينات القرن الماضي، الذي كان يشغل منصب مساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي في حقبة كلينتون، أن حدد أهمية القوة الناعمة في كونها تتيح بلوغ الأهداف المطلوبة عبر آليات الجذب والإغراء بأقل تكلفة ممكنة سواء على الباثّ والمتلقي بقوله: «حينما أجعلك تريد فعل ما أريده منك فعله، فليس ثمة موجب لاستخدام القوة أصلا». وفعلا، يبدو أن أوباما قد قرأ كتاب جوزيف ناي جيدا، كما تابع عن كثب الحوار الذي دار حول هذا الموضوع، مع تفاقم إخفاقات بوش في العراق وغيره من المواقع الأخرى قبل أن يعزم على دخول سباق الرئاسة. ولا يهم كثيرا في عالم السياسة أن نسمي هذا الأمر مخاتلة وخداعا أو ذكاء وبراعة أو كليهما معا، بل الأهم من ذلك إدراك أن الأمور تجري على هذا النحو من دون غيره.

نعم، الخطاب مسألة مهمة سواء لإثارة لهيب النزاعات أو لتخفيفها، ولصنع الحروب أو السلم، وقديما قالت العرب «الحرب أولها الكلام»، ولكن ما هو أهم من ذلك هو الوعي بأن النوايا والأقوال، على أهميتها، تظل عنصرا ثانويا في عالم السياسة قياسا بالأفعال والمعطيات على الأرض. لقد قدم أوباما في جامعة القاهرة وقبل سنة خطابا بالغ الجاذبية والحبك، ولو كان مجرد فيلسوف أو رجل فكر وثقافة لقلنا إنه قام بما يجب عليه القيام به ولا يطلب منه أكثر من ذلك، أما وإنه يقود القوة الأكبر في عالم اليوم، والأكثر تدخلا في شؤون المنطقة، فيجب أن يقال له: شكرا على هذه الخطابات الجميلة والمنصفة في حقنا، ولكن ماذا بعد؟

* باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية