«هلوسات» سياسية.. حول قافلة الحرية

TT

بالرجوع مرة أخرى إلى «مرجعية» ديكارت في تعريف التهور، وهو: «أن يُسبق القرار والتصرف بتفكير غير حصيف وحكم غير عقلاني، ينظر بعمق في الحال والمآل». بالرجوع إلى هذه الحكمة الديكارتية، يتضح أن هذا التعريف ينطبق على عرب من العرب، كما انطبق في الأسبوع الماضي على قادة إسرائيل الذين «تهوروا» في التعامل مع قافلة الحرية في المياه الدولية في البحر الأبيض المتوسط.. ويتمثل انطباق التعريف على عرب من العرب في أن ألسنتهم وأقلامهم سبقت تفكيرهم وإعمال عقولهم وهم يعلقون على حدث قافلة الحرية.

1) ولنبدأ بمحاولة «أسلمة» قافلة الحرية من خلال صبغها بـ«الصبغة الإسلامية» في باعثها وسلوكها ومقصدها (كاستنطاق المشايخ واستعمال مفردات الجهاد)، فهذه محاولة تجافت عن العقلانية بأكثر من اعتبار ومقياس:

أ) تجافت عن العقلانية من حيث إنها محاولة غير صادقة، بمعنى أنها لا تطابق الواقع.. والتعريف العقلي الموضوعي اللغوي للكذب هو «عدم مطابقة الواقع». فلقد انتظمت القافلة جنسيات متعددة، منها جنسيات: السويد وألمانيا وبريطانيا وكندا وبلجيكا وفرنسا واليونان وإسبانيا وأيرلندا وإيطاليا، وهي جنسيات غير عربية وغير إسلامية، بل إن أصحابها ينتمون إلى الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية.

لماذا الإصرار على «أسلمة» أفعال هؤلاء ومسالكهم وهم غير مسلمين؟! هل هذه «انتهازية دينية»؟!

ب) والمحاولة المتهورة تجافت عن العقلانية لأنها لم تستحضر ولم تستصحب مقاييس العقل الرشيد التي تقول: إن الناس في عالمنا هذا (سبعة مليارات إنسان) يجمعون على «الإنسانية» - بحكم إنسانيتهم وبشريتهم - ولكنهم لا «يجمعون» على «الإسلاميات»، وذلك لسبب جد بديهي، وهو أن ليس كل سكان الكوكب مسلمين.

ج) وتجافت المحاولة عن «العقلانية»، إذ غاب عنها - من خلال غيبوبة عقلية - أن فعل الخير والمعروف والمرحمة والعدالة والمروءة والنبل ليس «محصورا» في المسلمين.. ولو أُحصيت أفعال الخير والإنسانية في العالم لكانت حظوظ غير المسلمين منها أضعاف أضعاف حظوظ المسلمين، بالقياس إلى العدد الكمي، والنبل النوعي في الحالين.. إن غير المسلمين يسارعون إلى الخيرات ودعم الحرية والعدالة وهم باقون في أماكنهم، لم ينتقلوا إلى الإسلام.

وهذا كله يُعرف بالعقل والتجربة، بمنطق وقائع التاريخ، ووقائع الحاضر الراهن.. ولمن أراد مرجعية إسلامية في هذا الشأن، فإنا نحيله إلى الفقرة الآتية.

د) إن «الإنسانيات المجردة» قد أعانت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصَرته وحمته.. فبباعث إنساني محض سعى نفر من كرام العرب إلى نقض الوثيقة الظلوم التي تنص على مقاطعة النبي وصحبه وبني هاشم أجمعين.. وبدافع إنساني أصيل، سارع المطعم بن عدي إلى حماية النبي مرجعه من الطائف.. وناقضو الوثيقة الجائرة والمطعم كانوا جميعا على الشرك حين بذلوا هذا المعروف، وتبدى منهم هذا الخلق الإنساني الرفيع. لم ينطقوا بكلمة «لا إله إلا الله»، ولم يصلّوا صلاة المسلمين.. فمتى يتعلم المسلمون أن البشرية أوسع منهم، وأن «العمل الإنساني» ليس حكرا عليهم؟ ثم متى يتعلمون ويلتزمون الكف عن تعميم «الحكم بالسوء» على أسرتنا البشرية، والكف عن تعميم الدعاء البدعي على غير المسلمين؟ ثم متى يتعلمون الاندماج في «تضامن إنساني» هو أوسع من التضامن العربي، وأرحب من التضامن الإسلامي؟

2) ومن الهلوسة السياسية حول قافلة الحرية (وتعبير الهلوسة ألطف وأرحم من الاتهام بالتشويش على قضايا العروبة والإسلام لصالح أجندات أخرى: شخصية آيديولوجية أو غير ذلك).. من هذه الهلوسة: تفسير حراك قافلة الحرية «العالمية» بأنه حراك وراءه أصابع إيرانية «!!!!!».

إن هذه الهلوسة تثبت نظرية ديكارت (التهور هو أن يُسبق القرار والتصرف بتفكير مستعجل غير ممحص بأحكام العقل، غير ملتزم بصرامة مقاييسه).. وهذا هو البرهان على وجود هذه الهلوسة:

أ) إن هذا التعجل في التحليل والاستنتاج يعيد إلى الأذهان هلوسات سابقة في الفكر السياسي والإعلامي العربي.. هلوسات مثل أن الصهيونية أو المخابرات المركزية هي وراء كل شيء يقع في الوطن العربي والعالم الإسلامي، حتى قال أحد الظرفاء: لو أن زوجين اختلفا على مسلسل تلفزيوني أو مباراة لكرة القدم لسارع أولئك المهلوسون إلى القول بأن وراء الخلاف كيدا صهيونيا أو استخبارا أميركيا!!.. ولقد اعترت هذه الهلوسات تيارات عربية وإسلامية مختلفة، شيوعية وقومية ودينية، إلخ.

ب) إن تفسير حراك القافلة الإنسانية بالأصابع الإيرانية خدمة «غير عقلانية» لإيران من خلال إهدائها مكاسب وأرباحا هائلة بالمجان؛ أرباحا مثل: القدرة الإيرانية الفائقة على تسخير تركيا وأكثر من ثلاثين جنسية أخرى لخدمة أجندتها.. ومثل أن إيران هي ذات الحس الإنساني الأقوى والأعلى والأصدق في عالمنا هذا.. ومثل أن إيران هي النصير الأعظم والأشجع للفلسطينيين وقضيتهم.

ج) بمقتضى الطرح السياسي الإعلامي الذي يقول إن إيران تمثل خطرا ما على المنطقة، كان ينبغي تثمين وتشجيع «الدور التركي» لأجل إحداث توازن إقليمي معقول في حراك دولتين تكادان تتماثلان في الثقل البشري - مثلا - ثم بمقتضى الطرح نفسه، فإن تركيا «السنية» تعادل إيران «الشيعية».. هذه الحسابات - المبنية على نظرية الطرح هذه - كانت خليقة بأن تمنع التفكير من التعجل بالتفسير القائل: إن أصابع إيرانية وراء حراك سفينة الحرية. بيد أنه لما غابت هذه الحسابات كانت «الهلوسة» بديلا!!

3) إن واقعة قافلة الحرية كانت «إعلامية» في المقام الأول من حيث إنها «حدث ضخم».. و«حدث جديد» - فعل ورد فعل - و«حدث عالمي» بحكم تعدد جنسيات قافلة الحرية.. وبموجب هذه الاعتبارات تضاعفت مسؤوليات الإعلام تجاهه، بيد أن فريقا من الإعلاميين لم يتحمل مسؤوليته كما ينبغي.. وهذه النقطة مفتتح للمحور الأخير من المقال، محور «الدور السلبي للإعلام في قضايا الأمة».. يضم إلى ذلك: أننا في كنف مناسبة تثبت ضرر الإعلام «المتهور» على مصائر العرب والمسلمين، أي مناسبة هزيمة 1967. فلقد كثر الحديث عن مسؤولية السياسيين والعسكريين في هذه الهزيمة، ولكن الحديث لم يكثر (وهذا مريب جدا) عن دور الإعلام في تلك الهزيمة الماحقة، مسؤوليته عن الأكاذيب الكبرى قبيل الحرب وأثناءها.. ومسؤوليته عن «التفسير البعدي» لذلك الزلزال، وهو تفسير ملؤه التنويم والتخدير والتعليل المفسد للعقل والمنطق.. ومن «العبرة العقلانية» أن لا يكرر الإعلام اليوم تلك المأساة في تفسير الوقائع، وتفسير الأحداث.. وكاتب هذه السطور «منحاز» إلى الإعلام بمقتضى الاقتناع المبدئي والعصري، وبموجب مهنة تدريس الإعلام، وبحكم الممارسة الإعلامية، بيد أن هذا «الانحياز الموضوعي» للإعلام لا يعني - البتة - التعصب لـ«القبيلة الإعلامية» بإطلاق. فهذا تعصب يتناقض مع الغيرة المحمودة على الإعلام، مبدأ وقيمة، ومهنة، وتدريسا، وممارسة، ودورا وأثرا.