هيلين والثمن الكبير

TT

كلمات تعبر عن رفضها لفكرة الصهيونية كانت ثمن خروج هيلين توماس، عميدة مراسلي البيت الأبيض، من العمل الصحافي. العجوز المخضرمة التي كانت مثالا قويا للمراسلة والصحافية الجادة والمسؤولة، التي واجهت رؤساء الولايات المتحدة من أيام الرئيس جون كيندي حتى الرئيس الحالي باراك أوباما. كان كرسيها دوما في صدر الحضور وافتتاحية الأسئلة من نصيبها دائما.

بكاميرا «خفية» تم توريط هيلين توماس للإدلاء بآرائها عن الإسرائيليين وفكرهم الصهيوني، وبثت المقابلة «أولا» على موقع «الحاخام الحر» بالإنترنت، ثم انتشرت على موقع «يوتيوب». وقالت في المقابلة: «إنها تقترح عودة اليهود إلى دولهم بأوروبا»، بعدها قدمت استقالتها من كتابة عمودها في موقع «هيرست» للنشر.

ضحكت لأنني تذكرت بعض الأحداث في العالم العربي، حين يتم الإعلان عن انتحار أحد المسؤولين بأربع طلقات نارية في ظهره، أو حينما «يقال» أحدهم من منصبه «بناء على طلبه». تقع الآن هيلين توماس في نفس المطب الحزين، «فتستقيل» من منصبها بضغوط هائلة من دار النشر الكبرى التي تعمل لديها. وهيلين توماس بوقارها وقدرها المهني الكبير قدمت اعتذارها الصريح والعلني عما قالته، ومع ذلك لم يشفع لها تاريخها، فهي أخطأت في اليهود، وهذه أم الزلات وكبرى الخطايا في عالم السياسة والإعلام، والمكيال بمكيالين مستمر، فلم ينتفض الرأي العام الغربي ويبدي أسفه إزاء الإساءات المشينة بحق العرب والمسلمين التي خرجت من زعماء الدين المسيحي بالولايات المتحدة الأميركية من أمثال بات روبنسون وجيري فالويل وفرانكلين غراهام، أو من رموز الإعلام من أمثال جوكلاين وويليام سافير وبيل أورايلي، بل حتى من ساسة مرموقين وقادة عسكريين أيضا، لم يجبروا على الاعتذار أو الاستقالة أو وجه لهم توبيخ عام.

سيظل العرب والمسلمون يتوجسون خيفة وشكا وقلقا طالما استمر النظر إليهم على أنهم الأقل شأنا والمستباحة أرضهم وسمعتهم.

نعم تبقى إسرائيل معضلة كبرى في العلاقات بين العرب والمسلمين من جهة والغرب من جهة أخرى، فما دام استمر النظر إلى إسرائيل على أنها أرض الميعاد، ولا بد بالتالي من التعامل معها كإرث يهودي مسيحي، بدلا من التعامل معها كدولة خالفت القوانين والمواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية، ومن ثم تتعرض للعقوبة مثلها مثل غيرها، لن يكون هناك مناخ سوي وعادل للثقة وبنائها بين الطرفين.

المسألة، في المقام الأول، هي خلل في المعايير والمرجعية الأخلاقية التي تحكم العلاقات بين الأمم والشعوب، وهو الذي يجعل شعارات المساواة والحرية والعدل والحقوق ناقصة وخاوية من المعنى الحقيقي والنبل، طالما أنها شعارات انتقائية تقع وبقوة على البعض ويتم إغفالها عن البعض الآخر. إنها المظالم الجديدة التي تسببت فيها القوى الكبرى في العصر الجديد.

فاشية إسرائيل تؤيدها قوى الظلم في مواقع نافذة حول العالم، والقصور المستمر في التعامل مع الغطرسة الفاشية الإسرائيلية سيولد المزيد من الغضب والإحساس بالظلم. على العقلاء الأميركيين مراجعة ثمن وتكلفة الاستسلام التام للتأييد المستمر لإسرائيل على حساب المعاني النبيلة والقيم العظيمة التي قامت على أساسها فكرة أميركا بولاياتها المتحدة، فهي في تعاملها مع إسرائيل تقدم صورة بعيدة تماما عن ذلك. هيلين توماس هي آخر ضحايا هذا المنطق الأعوج.

[email protected]