نفق الجدل

TT

العملية السياسية في العراق تعودت أن تمر بكثير من الخوانق والعقبات، وفي كل مرة تصل من التأزيم الذروة، لكن في النهاية، وتماما في ربع الساعة الأخيرة يتم النجاح في تخطيها، أحيانا باحتواء أو توليف المطالب المتعارضة، أو بطريقة ترحيل المشكلات، ولكنها بالنتيجة إحلال للمساومات محل لغة العنف، أو الإقصاء أو الكبت. وهذه تظل ميزة على الرغم من كونها مثيرة للغثيان والملل للمراقب، وعلى ما تبعثه من الحيرة والخوف عند المواطن من فراغ سياسي ينتج عنه تدهور وانتكاس لأمن هش، أو فقدان الثقة بمستقبل يعد بمغادرة حالة الركود والتردي في كل نواحي الحياة، مرد متوالية الأزمات تعود لأسباب عدة، منها إلى أنه ليس من اليسير تحويل دولة عاشت لثلاثة عقود تحت الدكتاتورية إلى الديمقراطية، وتتضاعف الصعوبة إذا ما تم ذلك بأحزاب كالأحزاب العراقية التي غالبيتها - حتى بما فيها التي نشأت بعد سقوط النظام - ارتكزت في ثقافتها وخبراتها وأدائها على معارضة ذلك النظام. لذا فهي مجتهدة بل مبدعة في الإعاقة لا البناء، وهي قد تمرست بروح الجدل والمفاوضات المطولة لكونها لم يكن لها من شغل غير ذلك في ظل نظام تعارضه كان سيظل مخلدا لولا التدخل الخارجي.

ثم حتى بعد التغيير ونشوء الديمقراطية تداخلت واختلطت قاعدة التمثيل عند هذه الأحزاب، فهي نشأت كممثلة أولا لطوائف واثنيات، ثم تطورت بتطور المزاج العام، أو الحاجة إلى الخيار الوطني دون أن تنفك تماما عن مواقعها ووشائجها الأولى، بل ظلت مشدودة لها، وتعود إليها ما دامت اقتضت إليها المصلحة. وأيضا بسبب الامتداد الأفقي والغوص العمودي لمفهوم المحاصصة الذي بات سائدا ومستحكما، وإن تبدل تحت مسميات متعددة إلى مفهوم الشراكة أو المشاركة وغيرها. وهذا ما يخضع الاستحقاقات السياسية كل مرة إلى وقت طويل حتى يتم الانتهاء من نسج خارطة مواقع ومناصب مرضية ومقبولة من الجميع. ويزداد ذلك تعقيدا عندما يتداخل ما هو شخصي وكتلي ووطني من هذه المصالح الواجبة الإيفاء والتطمين، وهذا ما يصعب إيجاد المشتركات أو حتى وحدة المفاهيم المؤسسة لأي حوار، حيث تنعدم القاعدة الواضحة والمحددة التي يتم وفقها رصف أو اصطفاف القوى السياسية، حيث يصف السفير الأميركي السابق رايان كروكر، ولا أظن بتجن، نخبة الحكام بأنهم مستمرون بنفس الثقافة السياسية التي تجعل الحكام ببساطة لا يهتمون حقيقة بمن يحكمونهم، ملاحظا بأن صدام لم يخترع تلك الثقافة، بل إنها جزء من ثقافة سياسية عراقية دائمة، وهي لم تنتج بتاتا دولة سعيدة بعد سنة 1958، والمقلق أنها لم تنتج مثل هذه الدولة الآن.

لذا، فبما سبق وغيرها من الأسباب يصبح من الطبيعي أن تأخذ كل الحوارات مديات ماراثونية لا يقطعها أو ينهيها ويخرجها من انسداداتها إلا سيف الزمن أو الضاغط الخارجي. وهذان العاملان المعول عليهما - وإن اشتغلا - إلا أن ذلك لن يكون إلا بعد وقت طويل. فعامل الزمن تم الالتفاف عليه بتكتيكات باتت تشكل سوابق، إذ أخذ مائة يوم للمصادقة على نتائج الانتخابات، ثم انعقدت الجلسة في اليوم الأخير المتاح دستوريا، ثم تم اللجوء إلى الجلسة المفتوحة مكررين «الحيلة الدستورية» التي تم العمل وفقها مطلع انعقاد وتشكيل البرلمان السابق قبل 4 سنوات. وهنا الزمن أخضع لتفسيرين: أن يتم اختيار رئيس جمهورية خلال شهر من الانعقاد، أو اعتبار الانعقاد الذي تم ما زال قائما ومفتوحا، ومن الممكن أن يمتد، وهو ما أخذ به واعتبرت الجلسة التي لم تستغرق إلا 18 دقيقة قائمة وممتدة وربما إلى شهور، حتى يتم الفراغ من الاتفاق على الرئاسات الثلاث كحزمة واحدة. لذا هنا تم إضعاف هذا الضاغط بوضعه أمام أزمان مختلفة.

والعامل الثاني هو الخارجي، الذي كان غالبا ما يتدخل للضغط على الأطراف مجتمعين للتقارب أو كل يضغط على حلفائه، وهذا يبدو إلى الآن معطلا ربما باستثناء الدور الأميركي ومعه الأمم المتحدة حيث ما زالا يلعبان الدور التقليدي والتوفيقي تمهيدا للانسحاب، ولعدم ترك عراق فاشل بعد مغادرتهم، هذا إذا لم يفقدا الأمل بعراق ناجح، إلا أن هذا التأثير يبدو متناقصا وواضحا ذلك من مستوى التمثيل المتعامل مع قضية تشكيل الحكومة، الذي كان سابقا من مهمة الرئيس بوش الذي كان يتصل ويمارس الضغط على الفرقاء، ثم فوض في عهد أوباما إلى نائبه بايدن، ثم نزل بعدها بإشارة إلى الرغبة بالتخفف وإدارة الظهر إلى الشأن العراقي، إلى يد فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية.

لكن يظل المأزق هو في الأدوار الخارجية الإقليمية والتي هي الآن الأكثر فاعلية والأقوى لكن مشكلتها، ناهيك عن إخلالها بالسيادة والاستقلال، أن هذه الأدوار تدفع باتجاهات متعارضة، بل إن كل فاعل إقليمي يدفع بحليفه المحلي إلى التصلب وعدم المرونة لقطف الحد الأعلى من المكاسب وللحصول على الحصة الأكبر في القرار العراقي.

لذا الأمل المعقود على الخروج من المأزق هو أن تصل الأدوار الإقليمية المتناقضة إلى لحظة إدراك أن مصلحة حلفائها وعدم انزلاق البلد في المتاهات الضارة تقتضي أن توضع ريح موحدة في أشرعة تشكيل حكومة تضم الجميع، آنئذ سنجد أن حكومة عراقية قد تشكلت.